كثير من الكتب «القديمة» يكمن بين ثنايا صفحاتها وكلماتها رسائل عديدة «جديدة».. رسائل تكاد أن تتجاوز حدود «الزمان والمكان» وتنطلق من قواعد «الماضي» مسرعة نحو من يستدعيها لترسم وتشخص بدقة و»مهارة» أبعاد «الواقع الحاضر».. وتساهم فى «فك شفرات» مجاهل المستقبل!!
فى «عالم مضطرب.. مضطرب بشكل «مطرد».. تستهوينى دائما نظرية «التفسير التاريخي» للأحداث.. وعندما يكون التاريخ «حاضرا» فبالتأكيد هنا أن البوصلة تشير إلى الاتجاه «الصحيح».. هناك جانب آخر «يلازمني» باستمرار عند استدعاء «التاريخ» فى تفسير «أحداث اليوم» التى تضرب بالعالم الجديد على امتداد الكرة الأرضية.. هذا الجانب يتمثل فى أن «حضور التاريخ» أراه أنه إحدى الركائز المهمة أو الضرورية لفهم حقيقة التحديات التى تواجه «الأمن القومي».. ومن ثم امكانية التغلب عليها.
رسائل الكتب القديمة بما تحمله من استدعاء للتاريخ فى تشخيص الحاضر والعمل على مواجهة تحديات الأمن القومي.. هذه الرسائل بات تسليط الضوء عليها فى عصر «السوشيال ميديا» والذى يرتبط ارتباطا وثيقا بمفاهيم الحروب الجديدة أو الحروب «الناعمة» والتى تستهدف «العقل» عن طريق المعلومة.. أقول إن تسليط الضوء على مثل تلك الرسائل الآن بات من «لوازم» تحفيز حوائط الصد الوطنى داخل الوعى والإدراك المجتمعى العام.
من بين الرسائل الجديدة التى تكمن بين ثنايا الكتب القديمة.. رسالة وجدتها فى مقدمة احدى الموسوعات المصرية التاريخية.. هذه الرسالة صاغتها مجموعة من المؤرخين الأفذاذ.. وهى تنسج أو تسرد تاريخ مصر عبر آلاف السنين بصورة وكأنها «أنشودة» تصدح بها أحداث التاريخ بين صحارى ووديان وتضاريس الجغرافيا.. نعم إن مصر «أنشودة» الأمن والسلام.
اثنى عشر مؤرخاً استعانوا بما سبق أن سجله «المقريزي» ورفاعة الطهطاوى وجمال حمدان.. ودون هؤلاء جميعهم المقدمة الانشودة لموسوعة «الشرطة المصرية عبر التاريخ الوطني».. نحاول هنا سرد أبرز وأهم ما جاء فى تلك المقدمة التاريخية.
قبل أن نتناول «الرسالة» التى وردت فى مقدمة الموسوعة التاريخية الأمنية نود ان نذكر اسماء المؤرخين الذين صاغوا هذه المقدمة وجمعوا تلك الأحداث التى وردت فى أوراق التاريخ.. وهم جميعهم مؤرخون من أساتذة جامعات القاهرة وعين شمس وحلوان وجنوب الوادي.. الدكتور عاصم الدسوقي.. الدكتورة زبيدة عطا.. الدكتور على بركات.. الدكتور محمد عفيفي.. الدكتور جمال شقرة.. الدكتورة إيمان عامر.. الدكتور أحمد الصاوي.. الدكتور باسم محمد.. الدكتو ر محمود مرسى الدكتور خالد غريب.. الدكتور رفعت موسي.. والدكتورة شذى جمال.
قال هؤلاء «المؤرخون» فى مقدمة الموسوعة الأمنية «الشرطة المصرية عبر التاريخ الوطني»: كانت مصر أول أمة فى التاريخ.. ثم أول دولة.. ثم أول وأطول امبراطورية.. حافظت مصر على كيانها القومى ووحدتها العفوية دون ان تكون قابلة للاقتسام أو الانقسام «داخلياً» أو تكون قابلة للاستقطاع والانقسام «خارجياً».. فقد ولدت مصر كاملة وواصلت رسالتها الحضارية باكتمالها ووحدتها التى حافظت عليها دون ان ينفرط عقدها على امتداد ستة آلاف سنة.
ويضيف المؤرخون: المدهش فى ذلك ان حدود مصر من احدث الحدود «تخطيطاً» فى المنطقة والعالم.. فلم تخطط مصر حدودها الشرقية إلا فى عام «1906» مع انها أقدم وأرسخ الحدود فى العالم بحكم طبيعتها الواضحة.. ولهذا لم يكن تخطيط الحدود إلا محاكاة فوق الخرائط لطبيعية لا تقبل تغيراً أو تحولاً.. ولا تحتاج إلى اثبات اوبرهان بحكم انها تشكل الرسوخ فى الثبات.. مرت على مصر دورات التاريخ كله بحروبه وانتصاراته وحملاته وهزائمه ومتغيراته وعواصفه.. وظلت رقعة مصر السياسية فى وجه كل مد وجذر واستعمار توسعى أو استيطانى قديم أو حديث «ثابتة».. فقد احتمى التاريخ فيها عبر الزمن بقلعة الجغرافيا قدر ما احتمت الجغرافيا فى أغلب فصولها بالدولة المركزية القوية.. ولذلك سواء اتسع الدور المصرى أو تعرض لانكماش جائر.. فاضت مصر حتى وسط آسيا وشمال المتوسط وجنوب وشرق أفريقيا أو لزمت حدودها.. عاشت فى جسد امبراطورية واسعة أو فى ثياب مستعمرة.. فقد ظل الوطن السياسى المصرى راسخاً فى موقعه يشبه السد الجغرافى الهائل.. لا تأكل منه عاديات الزمن ولا يضيف إليه النهر من نحته فى فيضانه أو جفافه.. فمصر دولة لم تتفكك وحدتها السياسية منذ ولادتها الاولى عندما احتكرت لنفسها بواكير التاريخ.
وفى لمحة أخرى يقول «المؤرخون»: تظل مصر «الاستثناء» بحكم انها اتمت وحدتها القومية منذ ثلاثة آلاف واربعمائة عام قبل الميلاد وتطورت كأول أمة أو شعب بالمعنى القومى الحديث الذى لم تعرفه أوروبا إلا فى القرن الثامن عشر.. كانت عوامل «التوحد» فى مصر مبذولة فى البيئة والنهر وأساليب الحياة والحرف والطقوس والتحديات المشتركة وفى مقدمتها القوى الخارجية المتربصة.
ويستشهد المؤرخون ببعض ما قاله «جمال حمدان» عن مصر.. كدولة حيث قال حمدان: مصر اول دولة بالمعنى السياسى الكامل أو على وجه الدقة أول دولة وطنية وأول منطقة فى العالم تتحول من تعبير جغرافى إلى تعبير سياسي.. وقد ظلت كذلك تعبيراً سياسياً.. ومن البداية إلى النهاية.. ومن منبع التاريخ وعبر مجراه العريض والطويل وحتى مصبه الحديث..
كما استشهد المؤرخون بما قاله رفاعة الطهطاوى من أن مصر كانت فى أيام الفراعنة «أم أمم الدنيا».. فما اختصت به مصر بين المماليك ان كل مملكة تستنير برهة ثم تنطفيء.. وشرق شمس بهجتها ثم تختفي.. فكأنما نورها شيء ما كان ولا لمع ضوؤها فى زمن من الازمان.. وأما مصر.. والكلام مازال للطهطاوي.. فأغرب شيء من بقاء سعدها وارتقاء كوكب مجدها انها بقيت سبعين قرناً حافظة لمرتبتها العليا.. لها اليد البيضاء والسلطة المعنوية على سائر ممالك الارض.
ويستطرد المؤرخون: الثابت من الالواح والوثائق المصرية القديمة منذ الاسر المبكرة من قدماء المصريين انهم كانوا يعتبرون أنفسهم وطنيين بالأساس نشأوا وولدوا ونمو فى بلادهم وهو ما اضفى عليهم حساً خالصاً بالاعتزاز بالذات.. وقد تناقل المعلمون والمثقفون من قدماء المصريين تاريخهم القومى وكفاحهم ضد الأجانب الذين شنوا عليهم الحروب.. حيث تضمن «لوح مدرسي» صغير من القرن السادس عشر قبل الميلاد موضوعاً تعليمياً درس صاحبه خلاله مرحلة من مراحل كفاح أجداده ضد «المحتلين».. وهى مرحلة صورت تصميم أحد فراعنة مصر على مواصلة الكفاح ضد الأعداء المحليين وتم العثور على عبارة «سوف أصارع العدو وأحرر مصر».
وفى موضع آخر من مقدمة الموسوعة الأمنية يتحدث المؤرخون عن مصر صاحبة المركز الجغرافى المتميز: مصر أول الشمال.. وآخر الجنوب.. فهى جسر اللقاء بينهما كما هى «برزخ» التفاعل بين الشرق والغرب.. تضع قدماً فى البر وقدماً فى البحر.. كما تضع قدماً فى أفريقيا وقدماً فى آسيا وإن كان رأسها فى أوروبا.. عندها أقدم وأطول أنهار الدنيا ويحتضن شواطئها أقدم بحار التاريخ.. وهذا التواصل أو الاتصال بين النهر والبحر «قنطرة حقيقية» تمدد فوقها دورها الحضاري.. ويعود المؤرخون ثانية للاستشهاد بما ذكره المؤرخ جمال حمدان فى ذلك عندما قال: إن مصر تعتبر ملخص تاريخ العالم إلى حد بعيد.. كما أنها ليس من الصعب أن نعتبرها وإن بدرجة أقل مختصراً لجغرافية العالم.. العالم القديم على الأقل.. شهدت طفولة البشرية وأشهرت ولادة أخطر وأهم ثوراتها الأساسية وتحولاتها الحضارية فى التاريخ العالمى ابتداء من الثورة الزراعية والاستئناس والاستقرار إلى الثورة المدنية والنقل.. ومن تحول طرق التجارة مع الكشوف الجغرافية إلى الثورة الصناعية ومن بناء الامبراطورية وصراع الامبراطوريات فى الشرق والغرب إلى الحروب الصليبية والاستعمار الحديث.
ويستكمل المؤرخون عرض «الأنشودة»: ولدت «الأمة» من أضلاع الوادي.. ومن نبض نيله.. واستمدت لونها من طميه وغرينه.. وقوتها من فيضانه.. وصلابتها من جباله وصخوره.. ورقة طبعها من وسطية موقعها واعتدال مناخه.. أما عبقريتها فهى محصلة ذلك كله مضروبة فى منجم حكمتها بدروس تاريخها الممتد.. عاشت وضع الامبراطورية كأقدم وأطول امبراطورية فى التاريخ.. ولكنها عاشت وضع المستعمرة كأطول مستعمرة تحت سقف ألف عام.. القوة والصعود هما قاعدة تاريخها وليس الانكماش والضعف.. فكل تخلف تاريخى فى حياتها كان مؤقتا.. إذ سرعان ما تسابق كى تسبق.. وتستيقظ كى تقوم.. وتقوم لتنهض.. وتنهض لتصعد وتتبوأ مكانها الصحيح وتضبط الموازين وتعدل وتجدد وتفرض السلام المصري.. فليس ثمة دولة فى الدنيا تقف تحت قبة مركز الكون ويتاح لها أن تناور بموقعها.. كما يتاح لمصر.
إذا انتقل البندول الاستراتيجى غرباً فهى جزء أصيل من حوض البحر الأبيض المتوسط.. وإذا انتقل البندول شرقاً بحكم نموات فى الثروة والطاقة فهى على خطوط الحركة المباشرة ليست قضباناً ولكنها قاطرة.. وإذا تمحورت الجهود الدولية نحو أفريقيا.. فهى عاصمتها الطبيعية بالمكانة والمكان والعروبة والإسلام.
ويقول المؤرخون: على امتداد عصر الامبراطورية المصرية الأولى بامتداده الطويل جغرافياً وزمنياً.. عرفت مصر الاستقرار فى بيئتها الزراعية المستقرة فقد كانت.. وظلت.. امبراطورية سلام أو امبراطورية بناء حضارى بقدر كونها امبراطورية دفاع عسكري.. كان تأمين ذاتها وحدودها هو الأساس فى توجهها العسكرى وبهذا صاغت أول نظرية أمن قومى فى التاريخ وهى نظرية ربطت مبكراً للغاية من الأمن الخارجى والأمن الداخلى فى «وحدة فريدة» كما أنها أدركت مبكراً للغاية أيضاً فى أحد أبعاد هذه النظرية أن مصر الموحدة بدولتها المركزية القوية هى عاصمتها من الانهيار وسبيلها إلى المقاومة والانتصار.. كانت مصر صادمة لأولئك الذين تصوروا فى مراحل مختلفة أنها قابلة للتفكك.. لقد ظلت مصر حقلاً ومصنعاً وقاعدة استراتيجية حاكمة ومصدر إمداد بأدوات القوة والنفوذ لكل مستعمر طوال تاريخها كمستعمرة ولكنها ظلت أيضاً فى كل محطات التاريخ «مقبرة للغزاة الطامعين».. فلم يكن احتلالها نزهة بلا ثمن وإنما كان تكلفة باهظة تقدر ببرك دماء وتلال خسائر.
ويشير المؤرخون إلى تعامل مصر مع «الاستعمار الحديث» قائلين: لقد كانت المقاومة المصرية العصية التى واجهت الاستعمار الحديث هى التى فرضت على الحملة الفرنسية خروجاً منكسراً ممزق الأعلام طوى معه نابليون حلم الامبراطورية.. فلم تنهر امبراطورية نابليون بنتائج معركة «واترلو» الشهيرة وإنما بنتائج مغامرته فى مصر.. وهى التى حملت «حملة فريزر» وأغرقتها فى مياه البحر المتوسط.. وهى التى أوقدت مشاعل الثورة ضد الاحتلال البريطانى منذ أن صنع لنفسه موضع قدم بالقوة المسلحة الغاشمة وحتى خروجه مهزوماً بعد أن أنزلته من وضع القوة المسيطرة الأولى فى العالم إلى وضع القوة التابعة بعد أن طالت هزيمته كل جوانب الامبراطورية التى لم تكن تغيب عنها الشمس.
ويختتم المؤرخون مقدمة «الموسوعة الأمنية التاريخية» بقولهم: حين جاء العرب المسلمون رأت مصر فيهم «المخلص» من أكثر صنوف الاستعمار اضطهاداً واستغلالاً.. ثم رأت فى الإسلام حاجتها الروحية الطبيعية فدخلت فيه.. مصر المكان والمكانة.. نيل الزمان ونيل المكان.. مقدمة التاريخ.. حضارة الاستقرار واستقرار الحضارة.. امبراطورية البناء والدفاع والخصوصية.. صلابة بغير انغلاق وانفتاح بغير انفراط.. رسالتها «التوازن والعدل والسلام.. فى الأمس واليوم والغد».. بإذن الله.