ترأس قداسة البابا تواضروس الثانى أمس صلاة التجنيز على صاحب النيافة الأنبا باخوميوس، أسقف البحيرة، والقائم مقام البطريرك خلال الفترة الانتقالية التى أعقبت رحيل البابا شنودة الثالث.. والذى رحل عن دنيانا أمس وكان واحد من أبرز رموز الكنيسة الارثوذكسية، تمت الصلاة بكاتدرائية العباسية حيث توافد الألاف من المسيحيين والمسلمين من محبى الأنبا كرجل دين وطنى مخلص، قاد الكنيسة القبطية فى وقت عصيب فمر بها بسلام، واجه جماعة الإخوان بشجاعة وحافظ على الهوية، رجل كان مؤمنا فأدى الأمانة على أكمل وجه.
فى تصريحات سابقة، وصف البابا تواضروس الأنبا باخوميوس قائلاً: «عشت ونشأت على أرض البحيرة أرى الأنبا باخوميوس قامة وطنية حكيمة تعلم حب الوطن وتخرج وخدم فى معظم دول العالم وكان حب الوطن يلازمه فى كل وقت وحين وعلاقاته الطيبة مع الجميع».
وُلد سمير خير سكر – الذى صار لاحقًا الأنبا باخوميوس – فى 17 ديسمبر 1935، لتبدأ رحلته نحو الكهنوت بخطوات واثقة. فى 11 نوفمبر 1962، ترهّب باسم الراهب أنطونيوس السرياني، حاملاً فى قلبه شغفًا للخدمة والعبادة. لم تكن الرهبنة مجرد مسار وظيفي، بل اختيار لحياة البساطة والتكريس، وهى القيم التى لازمته حتى رحيله.
بعد أربع سنوات فقط من رهبنته، سيم كاهنًا فى يناير 1966، لتبدأ مرحلة جديدة من العطاء. لكن المنعطف الأكبر فى حياته جاء فى 12 ديسمبر 1971، عندما اختاره البابا شنودة الثالث ليكون أول أسقف على إيبارشية البحيرة وتوابعها، والتى كانت تُنشأ لأول مرة. فى ذلك اليوم، حمل اسم «الأنبا باخوميوس»، ليصير راعيًا لأبناء الإيبارشية التى ظل يخدمها لأكثر من أربعة عقود.
لم يكن تأسيس إيبارشية جديدة أمرًا سهلاً، لكن الأنبا باخوميوس تعامل مع التحدى بحكمة وصبر. فى 17 ديسمبر 1971، تم تجليسه رسميًا على كرسى البحيرة فى كنيسة رئيس الملائكة ميخائيل، مقر المطرانية، لتبدأ مسيرة طويلة من البناء الروحى والمادي. تحت قيادته، نمت الإيبارشية، وتأسست كنائس جديدة، وانتشرت الخدمات الاجتماعية التى جعلت من الكنيسة بيتًا لكل المحتاجين.
فى 1 يونيو 1985، اختاره المجمع المقدس مقررًا للجنة الرعاية الاجتماعية، وهو المنصب الذى أكد فيه على دور الكنيسة فى خدمة المجتمع، ليس فقط روحيًا، بل أيضًا من خلال دعم الفقراء والمهمشين. ثم فى 2 سبتمبر 1992، رُقّى إلى رتبة مطران، تقديرًا لجهوده التى لم تتوقف عند الحدود الجغرافية لإيبارشيته، بل امتدت لخدمة الكنيسة ككل.
بعد اختيار البابا تواضروس كبطريرك، الذى كان الأنبا باخوميوس يخدم معه كأسقف عام فى إيبارشية البحيرة، عبّر الأنبا باخوميوس عن إخلاصه لعشق الخدمة التى كانت محور حياته. أعلن بوضوح تحت قيادته وسيجلس تحت أقدامه ليخدم تحت قيادته، مؤكدًا قيمة التواضع كجزء من رسالته الروحية. عاد بعد ذلك إلى إيبارشيته فى مطروح البحيرة والمدن الغربية الخمس ليكرّس وقته وجهده لخدمة شعبه، مبتعدًا عن الأضواء العامة كما كان نهجه دائمًا. لقد جسّد الأنبا باخوميوس حبًا عميقًا للخدمة بتفانيه الدائم فى تقديم الرعاية الروحية والاجتماعية لأبنائه، أبناء ابراشيته جميعاً وليس أبناء الكنيسة فقط.
لكن المحطة الأكثر حساسية فى حياته كانت فى 22 مارس 2012، عندما رحل البابا شنودة الثالث، وأُنيط به مهمة قيادة الكنيسة كقائم مقام بطريركي. كانت مصـر تمـر بمرحـلة مضطــربة بعـد أحـداث 25 يناير، وكان الأقباط يعيشون حالة من عدم اليقين. فى تلك الفترة العصيبة، قاد الأنبا باخوميوس الكنيسة بثبات، حافظ على وحدة الصف، وأدار العملية الانتخابية للبابا الجديد بشفافية.
حمل الأنبا باخوميوس عبء المسئولية فى وقت كانت فيه التحديات جسامًا: ضغوط سياسية، مخاوف أمنية، وتطلعات شعب كامل إلى قيادة روحية تحميه من العاصفة. لكنه خرج من هذه التجربة باحترام الجميع، حتى أولئك الذين اختلفوا معه.
لم يكن الأنبا باخوميوس مجرد رجل دين عادي، بل كان شخصية شجاعة فى حفظ هوية مصر، رفض الانصياع لضغوط الجماعة الإخوانية فى واحدة من أخطر الفترات التى مرت بها مصر، فبعد ثلاثة أشهر فقط من توليه منصب القائم مقام البطريركى للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وجد نفسه فى مواجهة مباشرة مع نظام الإخوان.
فى تلك الأجواء المشحونة، لم يتردد الأنبا باخوميوس فى اتخاذ موقف حاسم: «منع الكهنة والأساقفة من إعلان دعم أى مرشح رئاسي»، حرصاً على حيادية الكنيسة وعدم جرها إلى معارك. لم يكن هذا القرار مجرد إجراء احترازي، بل كان رسالة واضحة مفادها أن الكنيسة لن تكون أداة فى يد أى طرف، وبالتحديد الجماعة الإرهابية التى حاولت بأشكال كثيرة وحتى فى آخر أيام البابا شنوده أن تتقرب بأفعالها الشيطانية للكنيسة القبطية فى محاولة فرض ضغوطها.
لكن المعركة الحقيقية بدأت عندما حاول الإخوان استغلال اللجنة التأسيسية لوضع الدستور لفرض رؤيتهم الأحادية. هنا، لم يكتفِ الأنبا باخوميوس بالصمت أو المسايرة، بل أقدم على خطوة جريئة: سحب ممثلى الكنائس من اللجنة احتجاجاً على هيمنة الإخوان وتهميشهم لمكونات المجتمع الأخري. لم تكن هذه مجرد خطوة رمزية، بل كانت صفعة قوية تعلن أن لمصر كيانا خالصا لا يمكن تشويهه أو المساس به أو محاولة تغييره،وهى خطوة فاعلة مؤثرة إذ سبق الانبا باخوميوس كل القوى السياسية المدنية فى إعلان الانسحاب، مما فتح الباب أمام انهيار شرعية تلك اللجنة لاحقاً.
الأكثر إثارة للإعجاب أن الأنبا باخوميوس اختار توقيتاً ذكياً لتنفيذ قراره، حيث أعلن الانسحاب فى 16 نوفمبر 2012، قبل يومين فقط من تجليس البابا تواضروس الثاني.فلقد أراد بذلك أن يحمى البابا الجديد من أى ضغوط سياسية قد تتعرض لها الكنيسة، وأن يرسل رسالة واضحة بأنه لن يترك إرثاً من المشاكل لخليفته.
لقد كان الأنبا باخوميوس راعيًا مخلصًا، وقائدًا حكيمًا فى الأزمات، وأبًا روحياً لمَن صاروا أعمدة الكنيسة..فى سيرته، نجد قصة إنسان آمن بمهمته حتى النهاية، وعمل بوطنية كاملة.