أدعى المستعمر التحضر ونادى بحق الشعوب فى تقرير مصائرها، وما زال يسعى لاحتلال العقول، وظلت اللهجة المصرية تتحدى مناوراته وتكتيكاته المعادية.
ولولا أبطال وبطلات صانوا لهجتنا المصرية؛ لما تنعمنا بلذة العبادة، ولا استشعرنا روحانيات افتقدها غير الناطقين بالعربية فى البيت العتيق.
.. فى رحلة الحج أو القصد إلى بيت الله الحرام آيات عدة تتكشف أمام البصيرة – لمن أراد – بمجرد الولوج بالروح إلى دوائر الروحانيات الرحبة، التى تتسع لتشمل دلالات لجملة إشكاليات كنا نعتقدها بلا حلول، أو نتصورها مُسلمات يجب التسليم بوجودها دون تفنيد لأسباب وجودها فى حياتنا، وربما احتلت مساحة شاسعة الأبعاد فى تاريخنا المعاصر القريب. من الوهلة الأولى لتحسس قدمك إلى الأرض المباركة، واتساع حدقة العين لترتوى ببهاء المنظر الروحاني، وانغماس النفس فى ملذات النعم ما بين ترف الاختيار بين الصلاة الواجبة والفائتة وسننها ونوافلها، أوالترتيل لآيات الكتاب، أو الدعاء للنفس والغير من الأحباب وغيرهم الذين صاروا هنا من زمرة الأحباب!، أو التسبيح بما فتح الله على مخ العباد، أو الاستغفار عن ذنوب وخطايا وآثام ومعاصٍ يعلمها صاحبها ويخفيها المضيف!، أو النظر فحسب إلى البيت العتيق. ومن بين الاختيار من تلك النعم المتاحة كلها تجد تواصلًا مرغوبًا بينك وبين جيرانك من الضيوف، ويكون السؤال الاستفتاحى لبدء علاقة جيرة أو زمالة فى البيت هو: «من أى بلد أنت؟» والعجيب أن هذا الاستفسار يكون دائرًا بين حتى الناطقين بالعربية أوالعربية المُحرفة، وليس فحسب عند أصحاب الألسن السواحيلى أو الأردى أو لغات البنجاب أو غيرها.. وهنا يتبادر إلى الذهن إذا كان من الطبيعى للآسياويين التحدث باللغات الساكنة ما بين الصينية والكورية واليابانية إلى الأردية والهندية، لماذا لا يتحدث الأفارقة لغتهم السواحيلية؟ ولماذا يتجاوبون الحوار بالفرنسية أو الإنجليزية أو الإسبانية وربما البرتغالية؟! والأعجب أن من بين هؤلاء الأفارقة تجد التوانسة والجزائريين والموريتانيين والمغاربة الأشقاء فى العربية ينطقون الفرنسية الطليقة والعربية بلسان أعجمي، فلا تتمكن حتى من إتمام حوار واضح الأركان جلِى المعانى حول موضوع بعينه إلا إذا كنت ممن يجيدون الفرنسية! نعم الفرنسية هنا فى الحرم ومع أشقاء العروبة، ناهيك عن حوارات تفرض وجودها مثل قضايا العروبة والوحدة وغيرهما بحوار مصرى – مغربى فرنسي، هنا الفاجعة الكبري؛ إذ تنحل عقد الطلاسم للباحثين عن السبب الرئيس لعدم توحد الكتلة العربية، ويظهر بوضوح مسئول التعليم بالمستعمرات الفرنسية جورج هاردي، الذى أسس لتكون اللغة الفرنسية هى الرسمية الحكومية بدواوين الباى فى تونس والداى فى الجزائر والمولى بالمغرب وموريتانيا، فلن تستطيع إتمام مصالحك إلا بالتحدث بالفرنسية، فكان من المحتم تعليم الفرنسية بالمدارس الحكومية والأهلية فى النصف الشمالى الغربى من إفريقيا، وتحققت استراتيجية الهيمنة الثقافية لهاردي: «إن اللغة الفَرنسية هى سلاح المعركة، ولربح الرهان لا بد من حسن استعمال هذا السلاح، حتى ولو تطلَّب الأمر اقتلاع الشعوب والأمم من امتدادها الحضاري». ولم يختلف الحال عندما تتحدث إلى أبناء الشام؛ إذ لا تستغرب أن تكون المفردات العربية محشورة حشرًا مفتعلًا بين ثنايا الجمل الفرنسية الطويلة، ربما ذرًّا للرماد!، وليس الحال بالأفضل مع الأخوة الأفارقة؛ فجميعهم لا ينطقون سوى الفرنسية أو الإنجليزية ولا وجود لأى مفردة عربية على الإطلاق، وعندما تتحدث للهنود والباكستان والأندونيس تدرك مباشرة مستوياتهم التعليمية وانتماءاتهم .
ما أجمل تاريخنا الذى صان حاضرنا ومستقبلنا، فكنا فى أرض البيت العتيق ننعم ونتلذذ بعبادتنا لربنا بالعربية، ونستشعر روحانيات حُرم منها مَن لا يفهمون العربية، لغة القرآن، سلامًا على الأبطال والبطلات الذين حافظوا لنا على لهجتنا المصرية ولساننا العربى من بطش حضارة زائفة استراتيجيتها – عوضًا عن الاحتلال العسكرى – الهيمنة الثقافية، التى لو صحت لحُرمنا من لذة العبادة.