كانت كومة المخلفات الصغيرة قد تحولت إلى «مقلب قمامة» شبه عمومي، وتحول الشارع الهادئ النظيف إلى مأوى للحشرات والقوارض والروائح الكريهة، سكان الشارع والمارة العابرون أَلِفَت عيونهم هذا المنظر ولم يعد أحدهم يشمئز أو يمتعض أو حتى يشعر أن هناك شيئاً خطأ يحتاج إلى تصحيح، كنت أمرّ على هذا الشارع واتساءل كيف يعيش الناس ويتعايشون مع أكوام القمامة وكأنها باتت جزءاً من حياتهم اليومية، هذا المشهد قفز إلى ذهنى عندما كنت فى جولة ماتعة داخل احد مشاتل الزروع والورود، قارنت بين مشهد القمامة الذى تحوم حوله القوارض ومشهد الخضرة والزهور الذى يحوم حوله النحل، وقعت عينى على زهرة غريبة وتعكس هندسة ربانية عجيبة فى تشكيلها وألوانها، أخبرنى صاحبى انها زهرة «الباشن فروت»، واستطرد شارحا بأنها شجرة متسلقة ومعمرة ودائمة الخضرة وتثمر بكثافة مرتين إلى ثلاث مرات فى السنة الواحدة وأضاف أن أصلها استوائى ، اتفقت مع صاحب المشتل على شراء مجموعة من الشتلات لزراعتها والاستفادة من ديمومة الخضرة وغزارة الإنتاج، زرعت فى منزلى شتلتين وأهديت بعضا من الشتلات لبعض من الأصدقاء بعد إعطائهم درساً اجبارياً طويلاً بعنوان «أهمية «الباشن فروت» الاقتصادية والبيئية»، فى اليوم التالى ذهبت إلى حيث مقلب القمامة واتفقت مع مجموعة من الشباب الذين يجلسون على الطرقات فى مدخل المدينة ينتظرون ان يصطحبهم أحد المارة للقيام بأداء عمل يومى عارض، ليقوموا بتنظيف مقلب القمامة بتجميعها فى اكياس مخصصة ووضعها فى سيارة نقل القمامة ثم غرس شتلات «الباشن فروت» فى نفس المكان، وقد تم ما أردت على أكمل وجه، اتفقت كذلك مع احد المتخصصين فى رعاية الحدائق ان يتابع يوميا شتلات «الباشن» ويمنع اى إنسان من إلقاء قمامة جديدة، كنت ازور المكان بشكل شبه دائم واحضر الأسمدة والمبيدات كى تنمو النباتات سريعا وقد حدث ما اردته مجددا، بدأت أشجار الباشن تنمو وتتمدد متسلقة الأشجار والأسوار والبيوت فى شكل بديع يدعو للبهجة، بدأت الأزهار تخرج من بين ثنايا الأوراق والسيقان والغصون، هى نفسها تلك الأزهار التى تفتحت امام عينى فى المشتل إياه وأخذتنى إلى حيث عوالم الفرح والسرور والبهجة، تحولت الأزهار إلى ثمار، تذوقت طعمها اللذيذ ورائحتها النفاذة فى بيتى حينما أثمرت بشايرها الأولي، مدت يدى لأقطف أول ثمرة للباشن فروت المزروع فى الشارع الذى كان مقلباً للقمامة، كم كنت سعيدا وانا أتذوق طعم تلك الفاكهة الساحرة واشتم رائحتها الأكثر سحرا، حضر مجموعة من الأصدقاء إلى المكان الذى تحول إلى حديقة، بادرنى أحدهم لماذا تزرع هذه الأشجار فى هذه الزاوية من الشارع ؟ وقال آخر لماذا اخترت هذه الفاكهة تحديدا ولماذا لم تزرع بدلا منه ليمون يستفيد منه الناس، وقال ثالث هذه الثمار الكثيفة سيقوم الأطفال والصبية بقطفها وربما قذفها بالطوب مما يعرض السكان والجيران للخطر، وقال رابع كان أولى بك ان تجمع الناس وتشركهم فى الأمر حتى يشعروا أنهم شركاء فى الموضوع ويدفعهم ذلك للحفاظ عليه، وقال خامس ما هذه الأنانية ؟ لأنك تحب تلك الفاكهة تفرضها على الناس دون استشارتهم؟ الحقيقة كنت أستمع إلى اصدقائى وانا هادئ تماما ولم أعرهم اهتماما فلم أرد على اسئلتهم السخيفة، كنت بين خيارين، الأول أن أحرر لسانى من قيوده الأخلاقية والدينية وأقوم بجلدهم جميعا، والثانى أن أشرح لهم ما كان عليه الوضع وكيف وصلنا إلى هذه الصورة البديعة، تذكرت أنهم جميعا كانوا يمرون على « مقلب القمامة « فيشتمون الروائح الكريهة ويرون المناظر الكئيبة ولم يشعروا للحظة أن هناك مشكلة، ولم يشتك احدهم ولو لمرة واحدة من هذا المنظر المزعج، لقد ألفوا المنظر والرائحة واعتادت عيونهم وأنوفهم على ذلك، وظلوا صامتون لا يحركون ساكنا، فكيف لهم الآن أن يخرجوا من كهوف سلبيتهم ليسلبوا منى فرحتى بالإنجاز ويضعفوا إيمانى بالتغيير! لن أسمح لهم أن يعبثوا فى مفاصل تكوينى ومواضع إيمانى وسأستمر فى زراعة الباشن فروت وسأسعد بقطف ثماره وسأنتشى بشم رائحته الساحرة رغم أنف أعدقائي.