فى 11 ديسمبر الماضى احتفلنا بمرور 113 عاماً
على ميلاد أديب نوبل نجيب محفوظ المولود فى 11 ديسمبر 1911، و»الجمهوريية الأسبوعي» يحتفل بقامة الأدب العربى بهذه الذكريات مع الناقد الكبير وأستاذ الأدب العربى بكلية الآداب جامعة القاهرة د.حسين حمودة، أحد الذين رافقوا «أديب نوبل» آخر
12 عاماً فى حياته فماذا قال:
عرفت نجيب محفوظ ضمن كثيرين جدا عرفوه، واقتربت منه ضمن كثيرين عرفوه أيضا، وترك فى عالمى أثره البالغ الذى تركه فى عالم كلّ من عرفه كذلك.. وخلال اقترابى منه، طيلة أكثر من اثنى عشر عاما، شهدت معه، وبجانبه، مشاهد لا تمحى أبدا من ذاكرتى ولا من روحي.. وفى كل مشهد كنت أرى فى صفحة وجهه ملمحا إنسانيا جديدا يستحق التأمل، ويستحق الاستعادة.
ملمح الترحيب الأوّل كان عندما التقيته للمرة الأولى كى أجرى حوارا معه لمجلة «فصول» القاهرية أوائل تسعينيات القرن الماضي. تركّز الحوار حول «ألف ليلة وليلة». كانت أسئلتى كثيرة ومرهقة، أجاب عنها جميعا، وامتد الحوار خارج الوقت المحدّد، رغم أن «التليفزيون» النمساوى كان ينتظر لإجراء لقاء مصوّر معه. قال وهو يبتسم لسكرتيره، الأستاذ فتحى العشري، بعد أن طال وقت حوارنا وبعد أن نبّهنا الأستاذ فتحى لذلك بأدب: «الحوار دا أهمّ من حوار النمساويين».. كم كانت فرحتى كبيرة بهذه العبارة وبهذه الابتسامة.
فيما بعد، كان حوارى الثانى معه مطولا ومتنوعا أيضا، ودار حول قضايا كثيرة، وكان مدخله عبارته: «لم أتوقع كل هذا العنف»، وكان يشير بها إلى محاولة اغتياله من شبّان لم يقرأ واحد منهم أى عمل من أعماله، بل لم يقرأ واحد منهم عبارة واحدة كتبها. فى هذا اللقاء كانت ملامحه المرحبة المبتسمة نفسها، ولكن كان يراودها طيف من أسى بعيد، وربما طيف من الإشفاق على من حاولوا اغتياله.
ـ 2 ـ
لقاءاتى الأقرب بـ»الأستاذ» كانت عقب شفائه من إصابته خلال محاولة اغتياله. حظى السعيد جعلني، منذ منتصف التسعينيات تقريبا، واحدا من مجموعة صغيرة بين مجموعات تلتقى «الأستاذ» بشكل منتظم؛ مجموعة واحدة مساء كل يوم، لعدة ساعات، على مدار الأسبوع. لقاؤنا المتجدد، طيلة سنوات، كان كلّ يوم اثنين. كنت أذهب إليه حيث شقته المتواضعة بكورنيش النيل بالعجوزة، أرنّ جرس الباب فى السادسة تماما ويكون جاهزا متأهبا تماما أيضا. يفتح لى الباب، بملابسه الكاملة، وأتابط ذراعه إلى سيارة أحد الأصدقاء التى تنتظر، ونقطع الرحلة من حى العجوزة «العجوزة» إلى قاعة صغيرة مغلقة بأحد الفنادق القريبة من مطار القاهرة، حيث كان ينتظرنا الأصدقاء، أربعة أو خمسة، وأحيانا يزيد عددنا على ذلك. كنا نجلس ونتضاحك ونتسامر ونتناقش فى كل شيء: الأدب والسياسة وأمور الحياة بما فيها تفاصيل حياتنا الشخصية. ضحكته، كالعادة، كانت هى الأكثر «جلجلة» من بين ضحكاتنا جميعا، وحواره كان هو الأكثر تسامحا وتفتّحا، وآراؤه كانت هى الأكثر حكمة، وملامحه الطيّبة فى كل لقاء كانت تقدم لكلّ منّا زادا للتفاؤل يكفينا طيلة ستة أيام سوف تمرّ قبل أن نلتقى «الأستاذ» من جديد.
ـ 3 ـ
من منتصف التسعينيات، عندما بدأت لقاءاتنا، وحتى شهر وفاته، أغسطس عام 2006، كانت حواسّ الأستاذ، خصوصا سمعه وبصره، فى تناقص تدريجي. لكن عقله ظل يقظا، حتى وقت الرحيل، إلى حدّ لا يصدّق. كنا نقرأ عليه أعمال بعض الكتّاب والكاتبات الجديدة، وكنا نتناقش حولها، وكانت آراؤه الثاقبة تدهشنا دائما. أحيانا يبدو لبعضنا أن الذاكرة قد بدأت تخونه عندما يسألنا سؤالا من قبيل: «هوّه إبراهيم أصلان كتب حاجة جديدة بعد روايته إمبابة؟».. وكنا نستعيد على الفور رواية «مالك الحزين» لأصلان.. ولكنا فيما بعد كنا نشعر بالخجل من أنفسنا عندما نكتشف أن أصلان كان قد قدم للأستاذ مسودّة أولى من هذه الرواية التى تدور حول حى «الكيت كات» بإمبابة قبل الاستقرار على عنوان لها، ومن ثمّ كان عنوانها القريب هو «إمبابة».. ملامحه عند السؤال عن أعمال من يراهم «زملاء كتابة»، كانت دائما ملامح مجللة بالاحترام لعمل الآخرين، وبالتقدير لإبداعهم.
ـ 4 ـ
خلال نقاشاتنا، أكثر من مرة، حول عدالة الجوائز الأدبية، كان «الأستاذ» عندما يتطرق الحديث إلى «نوبل» يستعيد فورا المبدعين الذين كانوا يستحقون الفوز بها ولم يحصلوا عليها.. وغير مرة كانت إشاراته إلى أسماء عديدة، منها: يحيى حقى وطه حسين وتوفيق الحكيم وغيرهم من الكتّاب العرب، وتولستوى وجراهام جرين ونيكوس كازنتزاكس وغيرهم من كتّاب العالم.. كان يتذكرهم ويذكرهم فيما تتراءى فى نظرته ومضة من الحزن، مقرونة ربما بشيء من الشعور بالذنب، لفوزه بهذه الجائزة دون هؤلاء.
ـ 5 ـ
كما كنت محظوظا بأن أصطحب الأستاذ، فى أغلب مرات لقائنا، من بيته إلى مكان لقاء جلستنا، كنت محظوظا أيضا بأن أجلس إلى جواره فى طريق عودتنا. طيلة طريق العودة، كان يحدّثنى أو أحدّثه، أو نصمت قليلا فى لحظات كان يتأمل فيها شيئا ممّا قلناه أو ممّا يدور حولنا. فى إحدى المرات غيّرنا طريق عودتنا بسبب الزحام، وبدأنا نسلك طريق شارع الأزهر. عندما نبّهت الأستاذ إلى ذلك اعتدل متحمسا فى جلسته، وعندما وصلنا إلى حيّ الحسين ومسجده الذى كان على يميننا، شدّ رقبته ورفع رأسه وصوب نظره نحو المسجد والحي، ومع حركة السيارة كان يدير رأسه للوراء كى يحتفظ بالمشهد لأطول وقت ممكن. وخلال هذا الوقت القصير، ولكن لفترة أطول بعده، ظلّ وجهه محتفظا بملامح طفل مشرقة بفرحة كبيرة، كاملة وحقيقية، وكأنه عاد بالكامل إلى عالمه الأوّل.
ـ 6 ـ
فى لقاء من اللقاءات، بدت ملامحه تجسيدا كاملا لتوتر واضح جدا. سألناه عن السبب ولم يجب فى البداية. لم يكن يريد إزعاجنا. وبعد وقت، وإلحاح منّا، صارحنا بأن «الحاج» صبري، سكرتيره ـ الذى وافق هو مؤخرا، أيضا بعد إلحاح طويل منّا، على أن يملى عليه نصوصه «أحلام فترة النقاهة» ـ قد أصيبت ساقه ولم يأت إليه منذ أيام طويلة. وخلال كلامنا معه اكتشفنا أنه «يحفظ» بذاكرته عدة «أحلام» لم يستطع إملاءها بعد ويخشى تداخلها أو نسيان بعضها. ألححنا عليه أن يمليها علينا، فأملاها. كانت اثنى عشر حلما كاملا، كتبتها كلها وراءه، وكان يمليها عليّ، ببطء وبدقة، وتقريبا «بالنقطة والفاصلة».. بعدها زال التوتر عن ملامحه التى استراحت تماما، وبدا وكأنه تخلّص من عبء ثقيل.
ـ 7 ـ
ملامح أخرى للتوتر، ولكن خفيفة ومحدودة ومقرونة بقسمات الجديّة، كنّا نشهدها على صفحة وجهه بعد كل مرة ينشر فيها اثنين أو ثلاثة من هذه «الأحلام» وينتظر رأينا فيها. كانت هذه «الأحلام» اكتشافا لطريق ولطريقة فى الكتابة. كانت قدرات بدنه، وتضاؤل مجال البصر والسمع، وإحساسه الخاص ـ الصوفى تقريبا ـ بـ»الوقت».. كان هذا كله يجعل الحكمة المختزلة فى كلمات زهيدة أساس علاقتة بالكتابة، ويجعل الخلاصات المتقشفة أساس علاقتة بالحياة. بعد نشر كل حلمين أو ثلاثة كان يرقب ويترقب آراءنا فيها، بجديّة وتوتر خفيف، وكأنه «تلميذ» ينتظر نتيجة عمله، أو كأنه كاتب مبتدئ «مكافح» يشق طريقه ويقتات على سعيه يوما بيوم، رغم كل ما حقّقه من قبل، فى رحلته الطويلة الحافلة.
ـ 8 ـ
الساعة التاسعة من صباح يوم إصابته الأخيرة، بحجرته بالمستشفي، وهو المستشفى نفسه الذى عولج فيه، قبل سنوات بعيدة، من إصابته البالغة عند محاولة اغتياله. كانت إصابته الجديدة، هذه المرة الأخيرة، بسبب أنه استيقظ بالليل من النوم وذهب إلى الحمّام فتعثر وسقط وشجّت رأسه. عرفت بالخبر فى وقت متأخر من الليل فكنت أول من يزوره فى الصباح.
عندما رآنى أدخل من باب الحجرة صاح مبتسما: «شفت اللى حصل لى ؟».. كان صوته ضاحكا، وملامحه ضاحكة أيضا، وكأننا نستكمل سلسلة نكاتنا فى لقائنا السابق، أو كأن أحدا آخر غيره هو الذى وقع وشجّت رأسه، أو كأنه يخبرنى بطرفة جديدة سمعها اليوم، لا علاقة لها بما حدث له.
ـ 9 ـ
فى السنوات التى عرفت «الأستاذ» فيها، واقتربت خلالها منه، سعدت بالمشاهد والملامح التى ظلت، لسنوات أخرى تالية لرحيله، أستدعيها وأستعيدها، وأستكشف فيها زادا لا ينفد ولا ينقضي، وأستردّ معها، مرات ومرات، حياة طيبة وجميلة مع من حظيت بنعمة القرب منه.