أكد د. جمال أبوالسرور مدير المركز الدولى الإسلامى للدراسات السكانية بجامعة الأزهر أن الزيادة السكانية تدور بين المرغوب والمرفوض وفق معدلات التنمية المتحققة، مشــيرا فى حــوار لـ «الجمهورية» إلى أن الدعوة إلى إطلاق يد المواطن فى الإنجاب دون قيود بمثابة انتحار للواقع والمستقبل.. مشددا فى حواره أن التيارات المتطرفة وراءها أجندات تدعمها بهدف خلق عداوة بين المواطن والدولة مستخدمين شبهات فى أحاديث دون إدراك مقاصدها فى مسألة الإنجاب.. معلنا أن الدولة لا تحارب الشريعة بل تدعم مراكز الإنجاب حتى تحقق رغبات المحرومين.. لكن الأمور تدور فى فلك فقه الأولويات .. موضحا أن مصر لها الريادة فى الشرق الأوسط بمجال أطفال الأنابيب.. وتطرق د. أبوالسرور فى حواره لإمكانية احتفاظ المرأة بخصوبتها حتى وقت اللزوم.
> ما حجم خطورة المشكلة السكانية فى مصر خلال الفترة الأخيرة؟
>> الزيادة السكانية هى زيادة محمودة فى ظل التنمية المستدامة التى تخدم هذه الزيادة المطردة ، فالزيادة ليست مجرد أرقام فى تعداد السكان، الزيادة خطة ممنهجة ودراسة محكمة فى الحاضر والمستقبل، فليس معقولا أن نصف الزيادة السكانية بالأمر الإيجابى دون وجود غطاء اقتصادى يستوعب احتياجات تلك الزيادة فى جوانب الرعاية الصحية والتعليمية السكنية والعملية، مع وجود مؤشرات ودلائل على ارتفاع حجم التنمية داخل الدول الراغبة تحقيق طفرة فى ثروتها البشرية، وهذه التنمية يمكننا الحكم بأنها موجودة إذا تحقق عندنا فائض فى المدارس والمستشفيات والمنشآت السكنية، وأصبحت الأنشطة الاقتصادية تحتاج إلى استيراد عمالة من الخارج، إضافة إلى وجود مرافق حيوية من شبكات الطرق والكهرباء والمياه والصرف، واذا توافر لدينا تلك المقومات فإنه يمكننا القول: الزيادة السكانية ثروة مستقبلية، وإذا لم تكن هذه المقومات موجودة فإنها تعتبر بمثابة عبء ثقيل وعوامل جذب إلى الوراء وليست قوة دفع إلى المستقبل، ولنكن صرحاء مع أنفسنا بأن المجتمع الدولى لا يؤمن سوى بالقوة ويستخدم نقاط الضعف لدى بعض الدول بهدف ابتزازها، وأكثر نقاط الابتزاز تكون اقتصادية، ولهذا فإننا اذا أردنا تحقيق المعادلة الصعبة فيجب اقتران الزيادة السكانية بزيادة مضاعفة فى التنمية والغذاء وتوفير فرص عمل حقيقية، واكتساب مهارات، حتى يصبح المواطن قادرا على العطاء والبناء وزيادة الإنتاج وتنمية موارد الدولة، ولكن زيادة بدون تنمية فإنها تعد كارثة، فالدولة لن تستطيع توفير تعليم جيد، ولا صحة، ولا خدمات تليق بمستوى حياة الأفراد، لأن الزيادة السكانية سوف تلتهم كل موارد التنمية وقد تعجز الدولة عن توفير فرص عمل كافية ومناسبة، وهذا بدوره سوف ينعكس ذلك على الدخل العام على الوطن، لأن كل زيادة فى الكثافة السكانية إذا لم يقابلها زيادة فى الدخل لتوفير حياة كريمة آمنة من تعليم وصحة ومسكن ومياه شرب نقية ومطعم وملبس وأمن كاف فسوف تكون زيادة غير محمودة، ومن هنا لابد من ضبط الخريطة السكانية التى تتماشى مع التنمية ونسبة الخصوبة فى مصر التى تبلغ نسبة 2.85% وهذه النسبة فى الخصوبة تعنى إنجاب كل أسرة طفلين، وهذا وفق المعدلات يعنى حدوث زيادة سنوية مقدراها ٢ مليون مولود سنويا، وإذا أردنا ضبط بوصلة الزيادة السكانية فلا بد ان تصل نسبة الخصوبة إلى1.2% بدلا من 2.85% وإذا استقرت النسبة علي1.2% فسوف تنجب كل أسرة طفلاً أو طفلين بدلا من ثلاثة أو أربعة فأكثر، فإذا ضبطنا هذه المعادلة فسوف نتمكن من ضبط النمو السكاني، وساعتها نتمكن من الاكتفاء الذاتى فى الغذاء والتعليم والصحة وكل الخدمات اللازمة للمواطن، وبذلك يكون لدينا مواطن قوى قادر على الإنتاج والتنمية الحقيقية.
> أين تكمن المشكلة السكانية؟
>> المشكلة السكانية ليست أعدادا وإنما تنظيم أسرة، وتنظيم الأسرة أحد عوامل ضبط النمو السكاني، وإذا أدخلنا الصحة السكانية ضمن المقررات الدراسية فسوف نتمكن من تخريج شباب على دراية بالمستقبل، وقادر على وضع حلول أسرية فعالة، وقد نجحت جامعة الأزهر فى هذه التجربة حيث أدخلت التربية السكانية ضمن المقررات الدراسية التى وافق عليها مجلس الجامعة منذ 3 سنوات، واشترط فيها اجتياز الطالب مادة التربية السكانية بنجاح للحصول على البكالوريوس أو الليسانس كأى مادة دراسية أخري، ونأمل فى القريب العاجل موافقة المجلس الأعلى للجامعات والتربية والتعليم، والمجلس الأعلى للسكان وضع برنامج التربية السكانية فى الجامعات والمدارس، وشاركت مؤخرا فى دورة لطلبة جامعة الأزهر ضمت أعدادا كبيرة من بلدان العالم وكانت تدور حول القضية السكانية وتنظيم الأسرة وموقف الشريعة الإسلامية من هذه القضية، والزواج المبكر، وتزويج الصغيرات، ورعاية الحوامل، ومجابهة العنف ضد الأطفال والممارسات الضارة مثل ختان الإناث والحمل فى سن مبكرة.
> التيارات المتطرفة تدعى أن مصر تحارب شريعة الله فى تحقيق الإنجاب وإعمار الكون؟
>> هؤلاء قوم منفصلون عن الواقع والمستقبل ولا يملكون سوى سرديات من النصوص التى لا يفهمون مقاصدها، وقد جلست مع كثير من علماء الدين وأئمة الفقه الذين شرحوا أصول الأحاديث التى يسوقها هؤلاء المنحرفون فكريا بهدف عرقلة البحث العلمى والمعرفى وتحقيق التوازن وفق ترتيب المصالح والأولويات، فليس معقولا أن يحدث مباهاة النبى صلى الله عليه وسلم بقوم لا يملكون الغذاء ولا الدواء ولا الكساء ولا يعرفون عن التقدم شيئا، وقرارهم مرهون بيد غيرهم ممن لا يؤمنون سوى بمنطق القوة، وأكبر دليل على تلك الأكاذيب التى يرددها هؤلاء المنحرفون فكريا أن الدولة تدعم مراكز الإنجاب والإخصاب الطبى وتقدم مبالغ مالية بهدف مساعدة غير القادرين على الإنجاب، وأبسط قواعد التفكير تؤكد أن من يرفض أمرا لا يدعم وجوده، فكيف تعترض الدولة على الإنجاب وتساعد الذين يعانون مشكلات فى الإنجاب على تحقيق أحلامهم بالذرية من خلال عمليات مدعومة فى مراكز طبية زهيدة الثمن، ولا شك أن ذلك التشويش من تلك الجماعات يقف خلفه تيارات وأجندات هدفها إغراق الوطن فى مشكلة مستعصية وترسيخ مفاهيم التواكل والعشوائية فى الاعتقاد والسلبية فى التعامل مع الواقع بما ينعكس سلبيا على مستقبل الوطن فى تحقيق النمو.
> هل حققت جهود المؤسسة الدينية نجاحا فى محاصرة الزيادة السكانية؟
>> بالفعل استطاعت المؤسسات الدينية تحقيق نجاحات ملموسة فى التصدى لتلك الظاهرة التى كادت تقضى على آمال القائمين برسم مستقبل التنمية فى مصر، ولا ننكر دور الأزهر الشريف ودار الإفتاء المصرية وعلماء وزارة الأوقاف وأساتذة جامعة الأزهر الذين بذلوا جهودا خارقة فى القوافل الدعوية والفكرية ومعهم وعاظ البحوث الإسلامية فلم يتركوا مكانا حتى حضروه ولا طريقا إلا سلكوه بعدما آمنوا بقضية محاصرة نيران الزيادة السكانية التى كانت تسرع لإحراق جهود التنمية بشكل يصيب المتابع بالرعب والهلع، ونجحوا بالفعل وفق إحصائيات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء فى خفض وتيرة الزيادة السكانية ولا تزال الآمال منعقدة فى تجميد تلك العجلة بشكل يناسب إمكانيات التنمية فى مصر.
> هل مركز الدراسات السكانية بجامعة الأزهر له دور مجتمعى فى تلك القضايا؟
>> الأدوار التى يقوم بها المركز متعددة تتمثل فى علاج العقم وأطفال الأنابيب للبسطاء الذين لا يقدرون على تكاليف العلاج، والآن أنشأنا أكبر وحدة لأطفال الأنابيب فى مصر لتقديم الخدمة للمرضى بسطاء الحال مع تدريب الأطباء وعلاج الأجنة والبحث العلمى وطلبة الماجستير والدكتوراة، والمركز حاليا يمنح درجتى الماجستير والدكتوراة، وقد تم تخريج دفعتين متخصصتين فى أطفال الانابيب لأول مرة، وهذه طفرة هائلة فى هذ المجال الحساس، ولدينا 17 طبيب ماجستير، و.35 دكتوراة، كما أن مركز الدراسات السكانية يتناول مشكلة العقم والصحة الإنجابية والاثنين وجهان لعملة واحدة، أحدهما يتخصص فى عدم القدرة على الإنجاب، كما يهتم بعلاج الأسرة التى حُرمت الإنجاب، ونعمل كذلك على تدريب أطباء مصر.
> كيف نستفيد من الزيادة السكانية الآن فى ارتفاع نسبة عدد الشباب إلى 65%؟.
>> استفادت النمور الآسيوية مثل الهند وإندونيسيا ممن استطاعوا أن ينهضوا حتى أصبح لهم قوة اقتصادية هائلة لأنهم علموا الشباب ودربوهم على التكنولوجيا الحديثة حيث وفروا لهم رأس المال والصحة والتعليم واكسبوهم المهارات والآن أصبحوا قوة لا يستهان بها لأن الإسلام دعا إلى العمل وزيادة الإنتاج ومن خلال هذه التجارب الناجحة علينا ان نستفيد من قوة الشباب الذين هم فى سن العمل لزيادة الإنتاج الزراعى والصناعى والخدمى والتعليم والصحة وخاصة الذين هم تحت سن 45 سنة لأن هذه الشريحة لابد أن نستفيد منها لأنها ستكون بعد ذلك شريحة معالة كما يجب الاهتمام بمن هم دون هذا السن والمقصود بهم أطفال الخامسة عشرة لأنهم سوف يكونون بعد قليل ضمن مرحلة الشباب ليقوموا بنفس دور من قبلهم لذلك يجب أن نؤهلهم للمستقبل.
> ما رأيكم فى إطلاق وصف رواد الاخصاب الطبى على مركز الدراسات السكانية؟
>> هذا الوصف لا يجافى الحقيقة حيث يحسب للأزهر الشريف هذا الفضل فى إدخال هذه التقنية منذ وقت مبكر، وكان للشيخ جاد الحق على جاد الحق دورا عندما كان مفتيا للديار عام 1979م بعد عام واحد من إنجاب طفل أنابيب فى إنجلترا، حيث أخبرناه أن هناك طريقة لعلاج العقم عن طريق أطفال الأنابيب وأننا بحاجة لرأى الشريعة الإسلامية لأن العالم الإسلامى فى انتظار رأى الأزهر، وفى 21 مارس 1980م أصدر الشيخ جاد الحق فتوى جامعة شاملة نصها «إذا كان هناك داع لإجراء عملية أنابيب لإتمام الحمل فهو جائز، وذلك للحفاظ على النسل، الذى هو أحد مقاصد الشريعة الإسلامية، بشرط أن تكون البويضة من المرأة والخلية المنوية من زوجها، على أن تنقل الخلية مُلقَّحة إلى رحم الزوجة صاحبة البويضة نفسها حالة سريان عقد الزواج»، حيث فتحت هذه الفتوى الباب على مصراعيه لإدخال العلاج داخل مصر وخارجها من دول العالم الإسلامي، وهذه الفتوى ساهمت فى فتح كل وحدات العالم الإسلامى أبوابها لأطفال الأنابيب وفق فتوى الشيخ جاد الحق التى كانت بمثابة هداية لمن جاء بعده حيث تناولت تلك الفتوى قضايا مستقبلية لم تكن مطروحة حينها، مثل التبرع بالبويضات والخلايا المنوية والأجنة والتبرع بالرحم وزراعة الأعضاء الإنجابية، وتغيير الجينات والصفات الوراثية، واختيار جنس الجنين، وكل هذه الأمور لم تكن موجودة فى ذلك الوقت، وبعد ثلاثة أشهر عرضنا هذه الفتوى فى إيطاليا وألمانيا فتعجب علماء الأجنة عن سبق الإسلام الغرب فى هذا العلم وكيف فطن لهذا السبق، وأكدوا أن الأزهر الشريف منارة فى المجالات العلمية والشرعية بل وفى كل العلوم الطبية وغيرها بل له السبق فى هذا المجال التقنى الحديث الذى يخدم البشرية جمعاء.
> هل يمكن الاحتفاظ بخصوبة النساء؟
>> بالفعل هذا ممكن وعلى سبيل المثال إذا تعرضت السيدة لأمراض خبيثة فإننا نحصل على هذه البويضات قبل تلقى المرأة العلاج أو استئصال أورام، وكذلك السيدة التى لم تتزوج بعد فنحصل منها على البويضة ونحتفظ بها حتى يحالفها الحظ بالزواج فى المستقبل، ويمكن استعمال ذلك عند بلوغها سن اليأس وانقطاع التبويض، وبذلك يمكنها الإنجاب، وبالفعل هناك حالات كثيرة تحتفظ بالخصوبة لحين الزواج وكذلك الحالات المرضية المزمنة.
> كثيرون يتهمون الدولة بأنها تنسى العلماء؟
>> عملت فى مصر بمجال الطب والتعليم والبحث قرابة 50 عاما وأدخلت كثيراً من التقنيات الحديثة التى لم تكن موجودة مثل ضوابط وأخلاقيات البحث العلمى وتقنية أطفال الأنابيب لأول مرة فى مصر والشرق الأوسط عام 86 وقمت بتأسيس المركز الدولى الإسلامى للدراسات والبحوث الاسلامية الذى عالج أهم المشاكل والتحديات التى تواجه الأمة الإسلامية فى المشكلة السكانية وتنظيم الأسرة والصحة الإنجابية، وساعدت فى تدريب آلاف الأئمة والوعاظ والواعظات، وكان الإنجاز الأكبر إنشاء أكبر وحدة أطفال أنابيب فى المستشفيات التعليمية، ووحدة أطفال أنابيب بالمركز الدولى الإسلامى عام 2004 وتعتبر أكبر وحدة بالقطاع العام وتقدم الخدمة بأسعار زهيدة للبسطاء من الأطباء وعلماء الأجنة، وطيلة تلك السنوات لم يخطر ببالى أننى أعمل منتظرا التكريم أو الحصول على جائزة، فأنا أعمل لأننى أؤمن بوطنى وبرسالتى التى كلفنى الله بها لأجل خدمة الناس جميعا وحرصت على تحقيق التميز، وقد جاءنى التكريم من مختلف المنتديات الدولية حتى بلغ قرابة ما حصدته من تكريمات 19 جائزة دولية، ولكن لا أخفى سرا أن أعظم تكريم حصلت عليه كان من الرئيس عبدالفتاح السيسى بجائزة النيل فى العلوم، فلا يجب أن تكون علاقة العالم بوطنه علاقة نفعية، بل يجب أن يعتبر العالم نفسه بمثابة جندى فى معمله أو مختبره البحثى رغبة منه فى تحقيق أعلى معدلات بحثية ونتائج علمية بهدف القفز إلى مستويات علمية غير مسبوقة فى تاريخ العمل العلمى بما ينعكس على وطنه وعلى الناس جميعا، وهذا يأتى من إيمان كل عالم أنه بمثابة جزء فى التركيبة الكونية لخدمة رسالة إعمار الكون وفق فلسفة تكامل الأدوار الإلهية.