لم يكن غريباً أن يعترف الممثل الأعظم فى تاريخ التشخيص وهو مارلون براندو بأن السيناريو الجيد يستر عورات النجم مهما كانت شهرته وخبرته.. لأنه يحرك بداخله طاقات جديدة لا يمكنه اكتشافها إلا فى براعة النص الذى يستفزه نحو الإجادة.
وتاريخ الدراما التليفزيونية ارتبط المؤلف من اللحظات الأولى التى انطلق فيها الإرسال التليفزيونى المصرى «يوليو 1960» بأسماء رائدة فيصل ندا ومصطفى كامل وعاصم توفيق وأمينة الصاوى ومحمد على ماهر وعبدالفتاح مصطفى وكرم النجار وجلال الغزالى ووفية خيرى وفتحية العسال لكن النجومية والوقوف أمام اسم المؤلف والبحث عنه بدأ فعلاً مع الحلقات الأولى من الشهد والدموع لأسامة أنور عكاشة ولو أنها لم تكن كتابته الأولى فقد سبقها إلى الشاشة أعمالاً عديدة مثل المشرابية «أعادها باسم أرابيسك» وأبواب المدينة «أعادها باسم ليالى الحلمية» ومعها الحصار والإنسان والحقيقة وأدرك شهرزاد الصباح ثم كانت علامته الأكبر فى رائعته الخالدة «ليالى الحلمية» حتى أن من سبقوا أسامة مثل محفوظ عبدالرحمن استفاد من نجومية المؤلف وبعد عودته من الكويت فقد كان اسمه مثل الطبل خاصة على الصعيد المسرحي.. ثم توالت الأسماء البارزة محمد جلال عبدالقوى ووحيد حامد ومحمد صفاء عامر وجاء من المسرح يسرى الجندى ومعه أبوالعلا السلامونى وبهيج إسماعيل.. حتى أن الثنائى الصحفى الكبير فتحى غانم وصلاح حافظ دخلا مجال الدراما التليفزيونية بالمسلسل الأهم عن أجواء وكواليس وصراعات الصحافة المصرية فى الخمسينيات والستينيات والسبعينيات بعمالقة اختلفوا فى الرأى والأسلوب.. لكنهم صنعوا الكثير للمهنة على المستوى العربى كله وليس المصرى فقط ومع وجود شهبندر الإنتاج ممدوح الليثى ومعه عبدالرحمن حافظ كان المسلسل المصرى هو الماركة المسجلة العربية الرائدة.
بعد الثورة
وفى السنوات العشر الأخيرة تطورت الصورة مع تقدم تكنولوجيا الصوت والفوتوشوب والجرافيك والكاميرات التى بدأت تنافس كاميرات السينما فى عمق الصورة وإمكانية استخدام عدسات مختلفة وظلت النصوص تعتمد على الاقتباس شبه الكامل.. وظهر ما يسمى بنظام الورش الذى قضى على الإبداع الفردى ووحدة النص لحساب السرعة والتنوع وهو ما لم يتحقق رغم أن الورشة تحولت إلى شركة لها صاحب مسئول عن الاتفاق مع الجهة الإنتاجية على توريد النص مختوماً باسمه ورأينا أن من يكتب مسلسلاً ويثير ضجة ولا أقول نجاحاً.. يتحول فى العمل التالى إلى أسطى له ورشة وصبيان وفى هذا العام أثبت أصحاب القدرات الإبداعية أن النجاح لا يمكن أن يحدث إلا بالرواية المحترمة والسيناريو الذى تبدو فيه مهارة المبدع وخياله وثقافته وخبراته.. وأثبت عبدالرحيم كمال ابن الرواية والمسرح أنه الأول فى الأجيال الحالية برصيده الذى يكفيه فخراً أن فيه شيخ العرب والخواجة عبدالقادر وونوس ونجيب زركش والقاهرة كابول وجزيرة غمام.. وتحفة هذا العام الحشاشين وهى نوعية من الأعمال لا يصلح معها نظام الشلة ومن كل فيلم أغنية وفى كتابى «ورشة سيناريو فى كتاب» رصدت هذه الظاهرة وقلت إن نظام الورش يصلح لأعمال «الست كوم» مثل الكبير أوى لكنه يقف عاجزًا أمام العمل التاريخى أو الدينى الذى يحتاج إلى باحث وصنايعى يعرف كيف يتعامل مع تواريخ وأرقام ويلتقط منها لحظات بعينها مثلما فعل محفوظ عبدالرحمن فى فيلم «ناصر 56» اصطاد لحظة تأميم قناة السويس وقدم من خلالها شخصية جمال عبدالناصر بامتياز مع المخرج الرائد محمد فاضل.. رغم وجود عدة مسلسلات وأفلام قدمت جمال عبدالناصر وقد حاولت أن تقول كل شيء.. فكانت النتيجة لا شيء.
وفى هذا العام نجح محمد سليمان عبدالملك مع المخرج محمد سلامة وخالد النبوى فى إعادة اكتشاف قصة إحسان عبدالقدوس «امبراطورية ميم» برؤية تناسب أيامنا تلك وبعد 52 سنة من الفيلم الشهير الذى قدمته فاتن حمامة بإخراج حسين كمال.. وجاءت معالجة عبدالملك ذكية وعميقة وسهلة فى نفس الوقت ومع «جودر» وحكاية من ألف ليلة وليلة.. ظهر اسم الكاتب الكبير أنور عبدالمغيث مجددًا بعد غياب طويل وهو اختيار فى محله لكى تظهر قدرات المخرج إسلام خيرى وبطل العمل ياسر جلال وقد كان موفقًا من أجل تغيير جلده وهو يمشى بخطوات واثقة وناجحة.
حتى فى الضحك
الأصل فى الكوميديا التى تعيش أنها مصنوعة من الموقف الذى يفجر «الإفيه» أو النكت.. وإلا لماذا يعيش نجيب الريحانى وإسماعيل ياسين وخلفهما الثنائى المبدع بديع خيرى وأبو السعود الإبياري، وراجع كوميديات أحمد عوض وعاطف بشاى وتذكر معى أسماء الراحل الموهوب أسامة غازى «أوبرا عايدة» ومحمد حلمى هلال حكايات الغريب وبوابة المتولي.. وأعمال محمد السيد عيد.. الذى أخلص لسير العلماء والأوائل ويكفيه قاسم أمين ومشرف وقبلها الزينى بركات..
والملفت للأنظار فى دراما رمضان 2024 أن الأعمال الكوميدية سحبت البساط من أعمال العنف والجبروت والانتقام.. لأن الأكشن ممكن أن يتواجد مع الضحك وحتى فى قصة حب ناعمة مثل روميو وجوليت وتيتانك وذهب مع الريح.. وفى الدراما التليفزيونية الليل وآخره، نصف ربيع الآخر، الحب وأشياء أخري.. برؤية فيها عمق يتلاقى فيها الزمان والمكان والأحداث والشخصيات بلا انفصال أو تباعد.
ورأينا هذا العام نوعية مختلفة من الكوميديا أبرزها «أشغال شقة» للأخوة دياب تأليف وإخراج وبطولة هشام ماجد وأسماء جلال.. و»بابا جه» لأكرم حسني.. و»كامل العدد» دينا الشربينى وشريف سلامة.. وكانت مشكلة ممثل كبير فى رواية لها قيمتها أن السيناريو لم يسعف نجم الدراما التليفزيونية الأول يحيى الفخرانى والواضح أن إعداده جاء على استعجال رغم وجود مشرف درامى على الجروب الذى كتب وهو مدحت العدل الذى يمتلك الخبرة والثقافة.
ولنفس السبب لم يظهر محمد عادل إمام الغالى ابن الغالي.. والموهوب لأن النص الذى قدمه «كوبرا» توليفة أطل عليها الزعيم وشرب ولم يعد جلباب أبى يصلح فى عصر الشورت والكت والجينس.. فكان «كوبرا» نسخة من «هوجان» ومن إبراهيم الطاير وشمس الزناتى وزى ما تقول قول..
على عكس ذلك قدم كريم محمود عبدالعزيز نفسه مع شيكو فى ثوب جديد.. وكوميديا فيها فكرة.. تفجر شلالات من الضحك.. وقد قدمت ما تيسر.. وكان بإمكانها أن تقدم ما هو أكثر.. لذلك أقول لمحمد عادل أنظر إلى نفسك فى فيلم «أبو نسب» مع ماجد الكدواني.. والكبير عادل كان خلفه المؤلف الفاهم خاصة وحيد حامد ثم يوسف معاطى ولا بأس أن تراجع حساباتك واسأل بابا عن مارلون براندو ومش عيب!