تُعَدُّ الهجرة النبوية المشرفة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة من أهم الأحداث فى تاريخ الإسلام، كما تعد أهم نقطة تحول فيه نحو بناء الدولة بكل ما تعنيه كلمة الدولة من معان.
والهجرة النبوية المشرفة مليئة بالدروس والعبر، وأول هذه الدروس أن من كان مع الله كان الله معه، ومن كان الله معه فلا يحزن، ولا يجزع، ولا يضيق، ولا ييأس، لأنه فى معية من أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
وقد تجلى أثر هذه المعية والتأييد الإلهى لحبيبنا (صلى الله عليه وسلم) فى كل مراحل الهجرة، من لحظة انطلاقه (صلى الله عليه وسلم) من داره بمكة المكرمة إلى المدينة المنورة، يقول الحق سبحانه: «إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»، حيث تتبع المشركون النبى (صلى الله عليه وسلم) وصاحبه حتى وقفوا على مشارف الغار الذى كانا فيه، فقال الصديق (رضى الله عنه) لحبيبنا (صلى الله عليه وسلم): فداك أبى وأمى يا رسول الله، لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فقال له النبى (صلى الله عليه وسلم): «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا»، فقال أحد المشركين إن هذا العنكبوت لينسج خيوطه على هذا الغار من قبل ميلاد محمد، ثم انصرفوا، حيث أعمى الله سبحانه وتعالى أبصارهم عنه «فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ»، وحفظ الله (عز وجل) نبينا (صلى الله
عليه وسلم) وصاحبه من كل سوء ومكروه.
وهذه المعية ممتدة لأمة محمد (صلى الله عليه وسلم) بشروطها، ما داموا على العهد مع الله (عز وجل)، محافظين على دينهم، متمسكين بكتاب ربهم (عز وجل) وسنة نبيهم (صلى الله عليه وسلم)، محققين الجندية الحقيقية لله (عز وجل)، حيث يقول سبحانه وتعالي: «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ».
أما الدرس الثاني: فهو أنه لا هجرة الآن إلى أى بلد بزعم إقامة دولة الإسلام فيه كما تزعم تلك الجماعات المتطرفة التى تحشد الشباب وتجنده وتغرر به بزعم إقامة دولة الإسلام، وهدفهم تخريب ديار الإسلام خيانة لدينهم وأوطانهم وعمالة لأعداء أمتهم.
فقد انقطعت الهجرة بمعنى الانتقال من وطن إلى آخر لإقامة دولة الإسلام فيه بفتح مكة، حيث يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْح وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّة»، (متفق عليه)، أى لا هجرة بعد فتح مكة، وقد جاء صفوان بن أمية مهاجرًا بعد الفتح، قال له النبى (صلى الله عليه وسلم): «مَا جَاءَ بِكَ يَا أَبَا وَهْبٍ؟ قَالَ: قِيلَ إِنَّهُ لا دِينَ لِمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ، فقال له النبى (صلى الله عليه وسلم): ارْجِعْ أَبَا وَهْبٍ إِلَى أَبَاطِحِ مَكَّةَ، فَقَرُّوا عَلَى مِلَّتِكُمْ، فَقَدِ انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِنِ اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا»، (البخاري).
وأما الدرس الثالث فهو عن الهجرة التى نحتاجها فى زماننا هذا، وهى الهجرة من البطالة والكسل إلى العمل والإنتاج، والهجرة من الكذب والغدر والخيانة إلى مكارم الأخلاق، إلى الوفاء بحق الوطن وخدمة الدين لا المتاجرة به، وأن نعمل معا على أن تقف مصرنا العزيزة على قدمين وساقين قويين، وأن تقف أمتنا العربية على قدمين وساقين قويين، وأن نوحد صفنا، ونقف صفًا واحدًا مع قواتنا المسلحة الباسلة خلف قيادتنا السياسية الحكيمة، وبخاصة فى تلك المرحلة الفارقة فى تازيخ وطننا وأمتنا.