دائماً ما نتحدث عن مؤسساتنا الدينية فى بلادنا بكل التقدير والاحترام حتى ولو حدثت بينها أحياناً خلافات فقهية قد يترتب عليها إثارة الجدل والتفسيرات المختلفة لقضية ما كانت محل اهتمام الرأى العام….ومن أبرز نقاط الاختلاف دائماً ما تكون حول الإفتاء فى مسألة معينة أثارها أحد العلماء أو الفقهاء سواء كان متخصصاً او غير متخصص.
وعلى مدار سنوات طوال كنا نعانى من فوضى الإفتاء التى يصدرها أشخاص غير مؤهلين لذلك حتى ولو كانوا أئمة المساجد حيث كنت أرى بنفسى العديد من المترددين على المساجد للصلاة يتوجهون إلى الإمام ويسألونه عن أمور تتعلق بالشرع والدين وكان هذا الإمام يعطى رأيه كما لو كان أحد المؤهلين للإفتاء وهو ليس كذلك على الإطلاق خاصة الأئمة المتواجدين فى الزوايا والمساجد الصغيرة بالأحياء الشعبية المنتشرة داخل ربوع البلاد وفى الوجهين القبلى والبحرى وكثيراً ما كان يترتب على ذلك العديد من الخلافات داخل أبناء الأسرة الواحدة أو العائلات الكبيرة تصل أحياناً إلى صدامات وقضايا فى المحاكم المختلفة…ومع تطور الحياة تطور معها الإدلاء بالفتاوى المختلفة سواء كان ذلك من خلال وسائل التواصل الاجتماعى أو وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية وأصبح المجتمع المصرى حقلاً من حقول الفتاوى الفقهية والتى وصل بعضها الى درجة الدعوة الى استخدام العنف واللجوء الى القوة عبر أشخاص يزرعون الأفكار الهدامة والمتطرفة.
وفى إطار جهود الدولة لمواجهة تلك الظاهرة فقد تقدمت الحكومة مؤخراً بمشروع قانون يهدف الى تنظيم إصدار الفتاوى الشرعية بهدف تحديد الإطار القانونى والتنظيمى لممارسة الفتوى وضمان تقديمها بشكل يتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية والقوانين المعمول بها.. لقد ورث وزير الاوقاف تركة ثقيلة تجعل من بعض المساجد التى يسيطر عليها من ينتمون الى التيار السلفى والذين أصبح لبعضهم برامج ثابتة فى العديد من الفضائيات واستطاعوا السيطرة على الفكر الجمعى وتمكنوا من ترسيخ فكرة أن كل من ينتمون الى المؤسسات الدينية الرسمية مثل الأزهر ودار الإفتاء ووزارة الأوقاف يتلاعبون بالدين إرضاء للحكام وللاسف فقد وقع الكثير من أبناء الشعب المصرى البسيط فريسة لتلك الأباطيل والأكاذيب ونجح هذا التيار فى اختراق العقل الجمعى والسيطرة عليه واستقطاب عشرات الآلآف من الشباب وتفخيخ أدمغتهم بالفكر المتطرف وحققوا نجاحات لا يمكن التغاضى عنها على مدار العقود الأربعة الأخيرة وكان من أهم أدواتهم فى هذا الشأن هو الرد على فتاوى من يلجأ إليهم بالآراء المتشددة وعدم الأمانة والإخلاص فى قول الحق طالما أن هذا يحقق أغراضهم فى السيطرة على المساجد واتخاذها منابر لتصدير الفتوى لمصالحهم الشخصية.
هكذا تسلم الوزير أسامة الأزهرى الوزارة بتلك المعطيات الخطيرة التى قد تذهب بالبلاد مرة أخرى الى ما لا يحمد عقباه ووضع نصب عينيه مهمة القضاء على ما أفسده عناصر هذا التيار و كان من أهم جهوده فى هذا الصدد القضاء على فوضى الفتوى من خلال الدعوة الى تنظيمها وليس الانفراد بها خاصة وأن أول من يلجأ إليه المواطن هو إمام المسجد كما سبق أن أشرنا لسهولة الوصول إليه بدلاً من دار الإفتاء أو لجان الفتوى بمشيخة الأزهر التى لا يلجأون اليها إلا فى الحالات الشائكة أما الأسئلة التى يطلبون فيها رأى الدين فهم يهرعون الى أئمة المساجد.. ومن هنا فقد تقدم فضيلته بمشروع قانون لتنظيم الفتوى حتى يضع الأمور فى نصابها الصحيح ويقضى على فوضى الفتاوى.
كم كان العالم الجليل الدكتور أسامة الأزهرى حصيفاً ومتفهماً عندما اعترض الأزهر الشريف على أن تكون وزارة الأوقاف أحد الروافد التى يمكن أن نستقى منها الفتاوى فعندما طالب الأزهر الشريف بتعديل عدد من مواد مشروع القانون أعلن الوزير موافقته على تلك التعديلات بقوله « يشرفنى أن أبدى القبول لكل ما أدلى به ممثل الأزهر الشريف فى المادة الرابعة من القانون احتراماً وإجلالاً للازهر الشريف لان وزارة الأوقاف كانت وستظل الأبنة البارة للازهر الذى سيظل منارة نهتدى بها جميعاً « وهو الأمر الذى جعل جميع السادة الحضور ينظرون اليه نظرة إجلال وإكبار وترتب على ذلك الموافقة بأحقية أئمة الأوقاف فى إبداء الفتوى … وكذلك فقد تمت الموافقة على الشروط التى وضعها الأزهر للائمة التابعين لوزارة الأوقاف والذين سوف يتم اختيارهم للالتحاق بلجان الفتوى والتى من بينها ألا يقل سنه عن 30 عاماً وأن يكون خريج إحدى الجامعات الشرعية بجامعة الازهر الشريف وألا يكون قد سبق عليه الحكم بعقوبة تأديبية وأن يكون حسن السمعة وله إنتاج علمى بارز فى الدراسات الإسلامية وإنه فى حال عدم اجتياز برنامج التأهيل لا يحق له التقدم بطلب آخر إلا بعد مرور عام من تاريخ إعلان النتيجة وأن يكون هناك ربط بين تلك اللجان مع مركز الأزهر العالمى للفتوى الإليكترونية والهاتفية فى تقديم الدعم اللازم وفقاً لما تتضمنه اللائحة التنفيذية لهذا القانون بالاضافة الى تشكيل لجان تقوم بالمتابعة المستمرة للتأكد من تحقيق ضبط الإفتاء والالتزام بضوابط الترخيص.
لقد أدرك السيد وزير الأوقاف المخاطر التى تتعرض لها الأسرة المصرية والشباب الواعد من خطورة الفتاوى الموجهة ضد صالح البلاد وكان من الفطنة بتفويت الفرصة على معارضى هذا القانون بموافقته على تعديلات الأزهر وطالب أن تتكاتف جهود المؤسسات الدينية وعلى رأسها الأزهر الشريف مع دار الإفتاء ووزارة الأوقاف للتواجد بقوة على الساحة الدينية لمجابهة الأفكار المتطرفة والهدامة وتقضى على الآراء والفتاوى الشاذة والمتطرفة وإنه يجب على الجميع إعلاء مصلحة الوطن فالوقت الحالى ليس وقت خلاف بل هو وقت وحدة وتماسك وتقارب ونشاط دينى متكامل.
هكذا أعطى السيد وزير الاوقاف درساً فى فنون المناقشة البناءة وفى التوافق لما فيه مصلحة البلاد والعباد الى أن تم الاتفاق والموافقة النهائية على إصدار قانون «تنظيم الفتوى».