هل كان ينبغى أن تشمل الوساطة المصرية القطرية الأمريكية وضع ترتيبات وجدول زمنى لوقف الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة يومياً على الفلسطينيين فى الضفة الغربية، وانتهاك المستوطنين للمسجد الأقصى فى حراسة قوات الاحتلال، وذلك تزامناً مع الترتيبات التى نجحت الوساطة فى التوصل إليها فى اتفاق وقف إطلاق النار فى غزة؟!
إن غزة والضفة لا تنفصلان، وهما ما تبقى من الوطن الفلسطينى بعد إقامة إسرائيل دولتها على الجزء الآخر من هذا الوطن.
والخطاب العربى والإسلامى الدعى لإقامة الدولة الفلسطينية ضمن حل الدولتين ينظر إلى غزة والضفة باعتبارهما جناحى هذه الدولة التى ينبغى أن تتمتع بتواصل جغرافى بينهما يعكس وحدة الشعب الفلسطينى على أرضه التى جرى احتلالها عام 1967، وأن تكون القدس الشرقية هى عاصمة الدولة الفلسطينية.
ليس الخطاب العربى والإسلامى فقط هو الذى يتبنى هذه النظرة، بل أيضاً قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، والتى لم تفرق بين غزة والضفة حين نصت على حق الشعب الفلسطينى فى إقامة دولته على أرضه المحتلة عام 1967.
إسرائيل نفسها لم تفرق بين غزة والضفة.. لا قبل عملية طوفان الأقصى التى انطلقت من غزة فى السابع من أكتوبر 2023، ولا بعد هذه العملية.
فرغم أن غزة كانت تضم حركة حماس وأخواتها من الفصائل الفلسطينية المسلحة التى تتبنى نهج المقاومة، بينما الضفة تضم السلطة الفلسطينية التى تتبنى الحلول السلمية، وتخضع للقيود والاعتبارات التى يفرضها عليها وضعها الدولى فيما يتعلق بمنهجها فى الدفاع عن شعبها وقضيته، فإن إسرائيل لم تفرق بينهما.. كانت تفرض حصاراً شاملاً على غزة وأهلها، بينما تواصل اعتداءاتها اليومية على الضفة وأهلها، واقتحام مخيماتها واعتقال شبابها ونسائها.
بل ربما كانت اعتداءات المستوطنين المستمرة على المسجد الأقصى وسائر المقدسات الإسلامية والمسيحية فى الضفة، إحدى الشرارات التى عجلت بعملية «طوفان الأقصي» وأوحت بتسميتها، لتنبيه العرب والمسلمين والمجتمع الدولى كله إلى ما يجرى هنا وهناك.. فى غزة والضفة.. ويتحرك الجميع لوقفه وإخراج القضية الفلسطينية من ثلاجة عملية سلمية جمدت القضية لصالح إسرائيل على مدى ثلاثة عقود بعد اتفاق أوسلو فى تسعينيات القرن الماضي.
وطوال الحرب الإسرائيلية فى غزة، لم توقف إسرائيل اعتداءاتها على الضفة يوماً واحداً، ولم تكن فى حاجة إلى تبرير ذلك بادعاء وجود عناصر من حركة حماس وأخواتها من فصائل المقاومة الأخري، فالحقيقة أنها لم تواجه حرباً فى الضفة بالمعنى الذى واجهته فى غزة.
إن أهل الضفة عانوا ما عاناه أهل غزة طوال هذه الحرب من تدمير وقتل وتجويع وتهجير واعتقالات وحرمان من التعليم ومن العلاج وغيره من حقوق الإنسان المعترف بها فى العالم كله.
الآن تجرى بنجاح نسبى ترتيبات وقف إطلاق النار فى غزة، وتحدث انفراجة نسبية أيضاً فى حياة أهلها بينما تتواصل الاعتداءات الإسرائيلية اليومية على الضفة وأهلها، مع كل ما يترتب على هذه الاعتداءات من تداعيات.
فى غزة، ربما كان الوضع الإنسانى أشد قسوة، وكانت هناك قضية المحتجزين لدى حركة حماس، ودفع هذان العنصران إلى التعجيل بوقف إطلاق النار، حيث كانت هناك «صفقة».. وقف النار مقابل إطلاق سراح المحتجزين لدى حماس والأسرى الفلسطينيين فى سجون إسرائيل والسماح بنفاذ المساعدات.. لكن هذا لا يبرر ترك الضفة الغربية بلا مسار واضح لوقف العدوان عليها.
وإذا كانت كل المناقشات التى دارت فى الفترة الأخيرة ومازالت مستمرة حول ما يسمى «اليوم التالي» فى غزة.. أى من يحكم غزة بديلاً عن حركة حماس عند وصول الهدنة لمنتهاها وبدء الإعمار.. قد رشحت السلطة الفلسطينية القائمة فى الضفة لتكون هذا البديل، فإن أبسط متطلبات تنفيذ هذا الافتراض هو تقوية السلطة الفلسطينية التى تعجز فى وضعها الحالى حتى عن تحقيق الحد الأدنى من إدارة شئون الضفة أو حماية أهلها من اعتداءات الاحتلال.
هذا بالطبع لا يسقط حق الشعب الفلسطينى ككل فى اتيار شكل ومكونات السلطة التى تحكمه.
وهذا أيضاً، بالإضافة إلى ما شهدته الأيام الأخيرة من توجهات حول القضية الفلسطينية والأفكار المتداولة بشأنها، يفرض واقعاً جديداً، يجعل من «اليوم التالي» قضية لا تخص غزة وحدها، بل تخص الضفة، ومصير الشعب الفلسطيني.. بل والأمتين العربية والإسلامية جميعاً.
إن أمر «اليوم التالي» فى غزة لم يعد ـ فيما يبدو ـ من مشاغل إسرائيل الحالية، فهى تريد غزة والضفة «أرضاً بلا شعب» لتوسيع رقعتها الجغرافية وتمددها الاستيطانى دون عوائق وفق خرائط «إسرائيل الكبري» التى روج لها رئيس وزرائها نتنياهو وحكومته فى العالم كله، وبالتالى فهى تعتبر السؤال حول من يحكم غزة بعد حماس جزءاً من الماضي.
ورغم أن أهل غزة قد بعثوا فى اليومين الماضيين برسالة أقضت بالتأكيد مضاجع نتنياهو وحكومته بمشهد «طوفان العودة إلى الشمال» والتمسك بتراب وأنقاض الوطن، ورفضهم القاطع التخلى عنه حتى وإن لم يتحقق لهم إعادة إعماره، فإن هذا يجب ألا يظل موقف الغزاويين وحدهم، أو أن تنتهى الرسالة عند هذا الحد.
وأقول واثقاً، إن هذه الرسالة أقضّت مضاجع نتنياهو، لأنها أعادت له مع هذا المشهد، حقيقة أن أهل الشمال فى غزة، وأهل جنوبها ووسطها وكل شبر فيها ظلوا متمسكين ببقائهم فى دورهم طوال الحرب تحت القصف والدمار، ولم يكونوا يتركونها إلا قسراً حين تصدر قوات الاحتلال لهم أوامر بالإخلاء والنزوح ليعودوا عندما تلوح لهم أول فرصة للعودة.
لابد أن هذه الذكريات ارتسمت فى أعماق نتنياهو فى مواجهة مشهد مواطنيه من بنى إسرائيل، الذين ما ان انطلقت حربه ضد الفلسطينيين فى غزة والضفة، وعلى مدى أربعة عشر شهراً، حتى جمعوا أمتعتهم، ورأى العالم كله من خلال شاشات الفضائيات طوابير فى مطارات إسرائيل وهى «تهجر» المكان مثلما «هاجرت» إليه قبل عقود.. لتثبت حقيقة أن إسرائيل ليست وطناً تاريخياً لهم، ولن تكون.
إن أهل غزة وهم جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطينى ويمثلونه قد حسموا القضية، وأعطونا درساً قوياً بألا نشغل أنفسنا بالسؤال: إلى أين يذهبون؟! لقد اختاروا الحياة والموت على أرض الوطن ولو كان فراشهم ترابه وغطاؤهم سماءه، ولا قوة على ظهر الأرض تستطيع أن تقتلع شعباً من جذوره رغم إرادته.
وهذا يعيدنا إلى نقطة البداية: انتبهوا أكثر إلى الضفة الغربية وما تحتاجه من ترتيبات، وما يجب اتخاذه من مواقف تمهيدية لوضع القضية الفلسطينية على مسار السلام الحقيقى الذى لا يتحقق إلا بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة على أرضها المحتلة.