أطلق الدكتور بدر عبدالعاطى موجة كبرى من النشاط والحيوية فى الدبلوماسية المصرية منذ توليه منصب وزير الخارجية فى التغيير الوزارى الأخير الذى أجرى هذا العام، خلفاً للوزير القدير سامح شكري.
عكس الدكتور عبدالعاطى شخصيته الدءوبة التى لازمته فى كل مراحل عمله الدبلوماسي، على موقعه الوزارى الجديد، فهو رجل لا يتوقف عن العمل والحركة، ليس فقط بشخصه، بل بكل أدوات الدبلوماسية المصرية المتاحة والمستحدثة، بما فيها استثمار عناصر القوة المصرية الناعمة.
الرجل يفتح خطوط التواصل يومياً مع الأطراف الفاعلة فى كل قضايا وأزمات المنطقة والعالم، ولديه وقت لاستقبال العديد من وزراء الخارجية فى اليوم الواحد من ضيوف مصر وإجراء المباحثات وعقد المؤتمرات الصحفية، فضلاً عن برنامج زياراته الخارجية للدول وفى القضايا التى تستدعى ذلك.
وقد أضاف للمنصب ميزتين.. الأولى هى الوضوح الشديد فى تصريحاته، واستخدام المفردات المباشرة فى التعبير عما يريد قوله، دون محاولة للتخفى وراء مفردات الغموض الدبلوماسي، ثم إنه يملك وجهاً واضحاً أيضاً فى قسماته، بحيث يمكنه أن ينقل بتشكيل تعبيراته ما يعزز المعنى الذى يريد إيصاله.
ولقد قرأت له فى الأيام القليلة الماضية عدة تصريحات تجسد الميزتين، وتنقل رسائل حاسمة ومباشرة للأطراف المعنية فى قضايا تمس الأمن القومى المصرى والعربى جميعاً.
ففى المؤتمر الصحفى المشترك الذى عقده فى القاهرة مع نظيره الصومالى «أحمد معلم فقى»، قال وزير خارجيتنا، إنه تم التطرق فى المباحثات بينهما إلى «القمة الثلاثية التى عقدت فى أنقرة، وأهمية عدم المساس بأرض الصومال وسيادته ووحدة وسلامة أراضيه»، و»أهمية أن البحر الأحمر هو للدول التى تطل عليه، ولا يمكن قبول أى تواجد لأى دولة غير مطلة عليه».
ولمن لم يتابع تسلسل الأحداث، فإن أثيوبيا غير مطلة على البحر الأحمر منذ انفصال أريتريا عنها كانت قد اتفقت مع الكيان الانفصالى عن دولة الصومال والمسمى بـ «أرض الصومال» والذى يلقى رفضاً دولياً جماعياً للاعتراف به، على إقامة قاعدة عسكرية لها على شاطئ هذا الكيان المطل على البحر الأحمر.
وقد رفضت دولة الصومال ذلك باعتبار أن هذا الكيان ليس دولة بل انفصالي، ولا يملك منح أحد قواعد على أرضه التى هى ملك للشعب الصومالى كله وجزء لا يتجزأ من الدولة الصومالية وسيادتها.
وقد أيدت مصر دولة الصومال، ودعت إلى قمة ثلاثية فى «أسمرة» عاصمة أريتريا حضرها قادة مصر وأريتريا والصومال، تم خلالها رفض المشروع الأثيوبي.
وعقب هذه القمة، تدخلت تركيا غير المطلة على البحر الأحمر لترطيب العلاقات بين دولتى أثيوبيا والصومال، ودعت قيادتى الدولتين إلى قمة ثلاثية فى «أنقرة» لإجراء مصالحة بينهما.
هذا ملخص سريع للخطوط العريضة للقضية المليئة بالخلفيات والتفاصيل، والتى حسمها تصريح وزير خارجيتنا لأول مرة بمثل هذا الوضوح والمباشرة لكل الأطراف.
وأتذكر بهذه المناسبة دعوة أطلقها فى السنوات القليلة الماضية زميلنا الصحفى والإعلامى القدير أحمد المسلمانى رئيس المجلس الأعلى للإعلام الآن، موجهة إلى الدول المطلة على البحر الأحمر إلى إنشاء كيان سياسى جماعي، اقترح وقتها تسميته «جامعة البحر الأحمر» لحماية هذا المجرى الملاحى العالمى المهم والدفاع عن مصالحها فيه، وللأسف لم يتم ـ فيما يبدو ـ التوافق بين هذه الدول على الفكرة التى أظن أنه حان وقت التعامل معها بجدية فى إطار ما يواجهه هذا البحر من تحديات وما يتعرض له من أطماع خارجية تلقى على دوله تبعات أمنية وسياسية واقتصادية ثقيلة.
تصريح آخر يحمل نفس الوضوح والحسم، جاء فى إطار حوار شامل أجرته صحيفة «المصرى اليوم» ونشر يوم الاثنين الماضي، رداً على سؤال حول موقف مصر من محاولات إسرائيل تصفية القضية الفلسطينية، فقد رد عليه بأن مصر كانت واضحة فى «رفضها» تهجير الفلسطينيين من أراضيهم تمهيداً لتصفية القضية، و»ستستمر» فى معارضة ذلك «بكل قوة»، ونعيد التأكيد هنا بأنها «لن تسمح» بحدوث ذلك ولا تحتاج للتشديد هنا على أن «تصفية القضية خط أحمر».
لاحظ هنا التدرج الصعودى فى استخدام المفردات، من الرفض، إلى الاستمرار فيه، وبكل قوة، ثم الانتقال منه إلى أن مصر «لن تسمح».
وأنتقل من هذين النموذجين، إلى مثالين آخرين أرى أنهما يحتاجان إلى تعليق..
ففى إطار نفس الحوار، ورداً على الآفاق المتاحة لحل قضايا وأزمات المنطقة، قال الوزير إنه لا حلول عسكرية لأزمات المنطقة، وأن مصر كانت سباقة منذ عشرات السنين فى تبنى نهج السلام باعتباره المخرج الوحيد من حالة الصراع الصغرى التى يعيشها الجميع، لواقع جديد يعم فيه الرخاء والازدهار والسلام فى المنطقة.
وفى رأيى أنه لا يوجد حل واحد حصرى لأزمات المنطقة أو أى منطقة أخرى فى العالم، وليس من المفيد استبعاد هذا الحل أو ذاك بصورة قطعية، بل توجد دائماً خيارات متعددة ومتدرجة وفقاً لأطراف وظروف كل أزمة وسلوك هذه الأطراف.
نحن فى منطقة تواجه عدواً لا يريد أن يعترف إلا بمنطق القوة، ولا يقيم وزناً لأى قوانين دولية، ولا يخضع لمنطق الردع لأن لديه من يحميه ويساعده فى كل أحواله، ونحن فى مصر لم نصل إلى تبنى نهج السلام إلا من خلال حرب.. فالقوة العسكرية المصرية فى حرب أكتوبر هى وحدها التى فتحت الطريق إلى نهج السلام وفرضته فرضاً على العدو بعد ست سنوات من احتلاله سيناء ورفضه لكل القرارات الدولية التى تدعوه للجلاء عنها، وكل المبادرات التى أطلقتها الأمم المتحدة فى سبيل إنهاء الاحتلال.
المثال الآخر، هو قول الوزير رداً على سؤال حول ما إذا كانت هناك فرصة حقيقية لاتفاق على وقف إطلاق النار فى غزة قبل انتهاء مدة الولاية الرئاسية لإدارة الرئيس الأمريكى بايدن «كنا نتمنى أن نرى نهاية لما يشهده المجتمع الدولى من عجز وشلل مخجل وسياسات مزدوجة المعايير».
ورأيى أنه لا يجب أن نوارى سوءتنا كعالم عربى وإسلامى بسوءة المجتمع الدولى لأن الاعتراف بالواقع العربى هو أقصر الطرق لتصحيحه.