مأوى.. ونس.. مكان هادئ.. وكفاح بدون ملل
شعارها «الحياة تبدأ بعد الستين».. والإعاقة ليست نهاية العالم
«وفاء» هاربة من مشاعر الخوف.. و«سلوى» فنانة ذات أصابع ذهبية
ماما ذكية.. قيثارة سماوية.. قارئة قرآن وموسوعة قيمة
ملامحهن البريئة ترك عليها الزمن سطوراً من المعاناة والكفاح والتوتر والخوف، بعد أن فقدن ابصارهن.
أخيراً.. وجدن الملاذ الآمن والحضن الدافئ والحنان والرعاية والمأوى والحياة الكريمة.. ليشعرن بأن «الحياة بدأت بعد الستين»، وذلك بين جدران أول دار من نوعها– وهى الوحيدة– فى مصر وهى «دار المسنات الكفيفات».
الدار نموذجية.. تقدم لهن الأنشطة الترفيهية والتأهيلية مثل القراءة والكتابة باللغتين العربية وبرايل، وبالإضافة إلى التعلم الحرفي، وتحسين مهاراتهن وقدراتهن، تعمل الدار فى تدريبهن على الاعتماد على أنفسهن فى أداء مهام الحياة اليومية، مما يُسهم فى رفع روحهن المعنوية وتحسين نوعية حياتهن وتُساعدهن على العيش بكرامة واستقلالية.
قامت «الجمهورية» بعمل زيارة داخل الدار، فبمجرد عبورنا البوابة الحديدية للدار، شعرنا انها تفتحُ لنا أبواب عالم هادئ يزخر بالسكينة والراحة، وجدنا حديقة صممت بذكاء لتُلبى احتياجات المسناتِ الكفيفات، فيها أشجار قصيرة تُتيحُ لهنّ التنقل بسهولة.
تنتشرُ على جنباتِ الحديقةِ كراس خشبيةٌ بجوارِ بعضها خصصت للنزيلاتِ، ليتسنى لهنّ للاسترخاءَ وقضاءَ أوقاتِهنّ فى الهواءِ الطلقِ بعد عبورنا الحديقة، درجاتُ السلمِ تؤدى إلى المبنى الكبيرِ المكونِ من ثلاثةِ طوابق، صممت لتُناسب احتياجاتِ المسناتِ الكفيفات، فهى مريحة لا تُسببُ أيّ مشقةٍ فى الصعود او النزول وقابلنا فى الطريق المصعد «اسانسير» ليتسنى لغير القادرات استقلاله للدور الذى يليه، تتشابهُ الطوابقُ الثلاثةُ بشكل كبير فى تصميمها، فكلُّ طابق يضم مجموعة من غرف الإقامة.
يظهرُ الممرُ المخصصُ لسيرِ النزيلاتِ، فى الدور الأول، هناك وجدنا مقابض حديدية موزعة بعرض حوائط كل طابق، لتكون مرشدًا تتحسَسه أيادى المكفوفات، خلال سيرهنَّ بالدار.. تحتوى الدار على 3 شقق فى كل شقة 6 حجرات وكل حجرة بها 2 سرير وحجرة اشراف وأخرى للجلوس بالإضافة إلى دورات مياه ومطبخ بكامل ادواته ومطعم وعيادة كما توفر الدار للنزيلات رسائل الترفية والتسلية حتى ان الكوتشينة مصممة بطريقة برايل.
رحلة من الخوف.. إلى الأمل
تروى لنا ماما وفاء عبدالله من محافظة الجيزة، حكاية صمود وإرادة فى مواجهة قسوة الحياة، فهى تقيم حالياً فى الدار بعد رحلة طويلة من المعاناة والعيش فى بيئة مليئة بالتوتر والخوف.
تبدأ وفاء سرد قصتها بمشاعر الامتنان والرضا، قالت: جئت أبحث عن الونس وربنا عوضنى بأصدقاء كتير فانا محاطة بزملاء يمنحوننى الشعور بالونس والدعم.. ولكن سرعان ما تبدلت ملامحها وغلفها الحزن عند التطرق إلى ماضيها: تقول عشت مع ابنى الوحيد حياة قاسية مليئة بالخوف والتوتر، فهو كان يعانى إدمان المخدرات، الأمر الذى عرّض حياتى للخطر.
تُكمل قصتها بصوت ممزوج بالألم: كان ابنى يحاول قتلي.. لم أتحمل المزيد من المعاناة، فقررت اللجوء إلى دار الرعاية منذ عام ونصف العام تقريباً.
اختتمت قصتها سريعاً بقولها: دلنى أهل الخير منذ عام على الدار، ومن وقتها وأنا أعيش هنا حياة هادئة مستقرة، وعندما أشعر بالحنين أطالب بالذهاب إليه وللأسف سرعان ما أعود للدار بسبب سوء المعاملة، كان نفسى أعيش مع سندى وأحفادى ما تبقى من عمري.
نموذج للصبر والإبداع
تجلس سلوى السيد أحمد صاحبة البسمة الهادئة، تنهمك فى صنع مشغولات يدوية بديعة من السبح وأشكال مختلفة من الخرز، تُشارك إبداعاتها فى معارض المكفوفين، حيث تحظى أعمالها بإعجاب الجميع.
تُخبرنا بقصتها قائلة: رغم تجاوزى السبعين عاماً، إلا أننى أمتلك القدرة على تحمل الصعاب والأسي، أعيش بلا عائل أو معيل فى الحياة، بعد الزواج لم أُرزق فيه بأطفال، قضيت فترة طويلة فى دار مسنين بمدينة بنها مسقط رأسي، قبل أن أنتقل إلى دار الضيافة للكفيفات بدعم من ابنة خالتي.
صاحبة الصوت الشجى
فى ركن هادئ داخل دار الضيافة للكفيفات، لفت سمعنا صوت تلاوة جميل للقرآن الكريم.. انجذبنا للصوت الشجي، لنُفاجأ بماما ذكية وهى تقرأ سورة «الأنعام» من مصحف «برايل»، بينما تُمسك فى يدها ساعة بنفس اللغة.
استمعنا لماما ذكية بخشوع وانصات تام، وعندما انتهت من تلاوة آيات الله، حكت لنا قصتها المُلهمة..عن حصولها على ليسانس الآداب، وكيف كانت تذاكر باستخدام طريقة «برايل»، بعد تخرجها طلب منها رئيس جمعية المكفوفين تعليم الأطفال المكفوفين القراءة فى حضانة الجمعية.
واجهت ماما ذكية فى بداية عملها تحدياً كبيراً، وهو كيفية مساعدة الأطفال على الاعتماد على حاسة السمع بدلاً من البصر، لكن بفضل صبرها وإصرارها نجحت فى مهمتها، وأصبحت تُعلّمهم ببراعة.
لم تكتفِ بتعليم القراءة فقط، بل حرصت على غرس القيم والأخلاق الحميدة فى نفوس طلابها.
وتقديراً لجهودها المتميزة، كرمتها وزيرة التضامن ضمن المدرسات المتميزات، لتصبح ماما ذكية مثالاً يُحتذى به للصبر والإصرار والتحدي.
أين أهلي؟!
هناك تجلس فاتن سعد، قالت: قبل 30 سنة، بدأت حكايتى فى جمعية النور والأمل للمكفوفين، حيث كنت أتردد بانتظام، ومع تقدمى فى العمر وجدت نفسى وحيدة تقريباً باستثناء والدتى التسعينية التى تحتاج إلى من يعولها، توجهت إلى دار المسنات الكفيفات بناء على إرشاد من أهل الخير، ومنذ عام ونصف العام أعيش فيه بشكل دائم، وللأسف لم أحظ بزيارة أى شخص من أفراد عائلتى حتى الآن، ولكن الحمد الله عوضنى ربى بأهل ليسوا أهلي.
عن يومها داخل الدار، قالت: أستيقظ من النوم أنا وكل زملائى الساعة الثامنة صباحاً لأن موعد الإفطار من التاسعة إلى العاشرة وبعدها نبدأ فى الأنشطة، سواء كانت مشغولات يدوية أو مخللات حتى موعد الغداء، حيث نتجمع على مائدة طعام واحدة للشعور بدفء العائلة، وبعد الانتهاء من وجبة الغداء تتجمع كل شقة فى «الصالة» لنتبادل الحديث ونحكى الحكايات.
تقاوم «الزهايمر» بذكريات «الطبيخ»
فى زاوية أخرى، تجلس زهرة السيد أكبر نزيلة فى الدار برفقة صديقاتها.. تتحلى ماما زهرة بحُسن الضيافة، وتحرص على التحدث مع الجميع بكل حرارة.
سرعان ما انخرطنا فى حديث شيق مع ماما زهرة، التى بدأت تروى لنا وصفات مُتقنة لأشهى الأكلات الشعبية المصرية، مثل الملوخية والفتة.. تتحدث ماما زهرة عن كل مكون بدقة، وكأنها ترسم صورة نابضة بالحياة لكل طبق.
تُخبرنا مشرفة الدار بأن ماما زهرة تعانى مرض الزهايمر، ذلك المرض الذى يُؤثر على الذاكرة والقدرات الإدراكية.
ورغم إصابتها بمرض الزهايمر، تُقاوم النسيان بكل ما لديها من قوة.. فهى تتمسك بذكرياتها الجميلة، خاصة تلك المتعلقة بالمطبخ المصرى الأصيل.
تُشارك ماما زهرة شغفها بالطبخ مع صديقاتها فى الدار تحت إشراف كامل من المشرفات، حيث يجتمعن معاً لتحضير مختلف الأطباق اللذيذة.. تُصبح رائحة الطعام المُعبقة بذكريات الماضي، بمثابة بلسم يُخفف من وطأة المرض.
قصة الأمان والرعاية
فى حجرة أخرى داخل دار الضيافة للكفيفات، لفتت انتباهنا ماما مها شحاتة بهدوئها وجمال روحها.
تحدثت بصوت هادئ، قائلة: أعيش فى هذه الدار منذ افتتاح أبوابها لاستقبال النزيلات، أزور أختى أحياناً وهى تُبادلنى الزيارة أيضاً، لكن لا أستطيع ترك الدار بشكل دائم، إلا لفترات قصيرة.
تواصل مها حديثها، شارحة لنا كيف تغيرت حياتها بعد قدومها إلى الدار: أعيش حياة لم أتخيلها من قبل.. نخرج فى رحلات ترفيهية إلى المصايف، ويُقيم الدار احتفالات مميزة بأعياد ميلادنا.. كما يُوفر لنا طعاماً شهياً لم أتذوقه من قبل، ناهيك عن المعاملة الحسنة من قِبل المشرفات ومدير الدار، ونحظى بخدمة على مدار الساعة، مع توفير ممرض وطبيب لِرعايتنا الصحية.
تُعبر مها عن شعورها بالأمان والانتماء داخل دار الضيافة للكفيفات، أصبح هذا المكان بمثابة عائلتها الثانية، حيث تُحاط بالرعاية والاهتمام من قِبل جميع من حولها.
ملاك رحمة
بينما كانت تقيس السكر والضغط لإحدى نزيلات دار «النور والأمل» للكفيفات، لفت انتباهنا حديث آلاء محمد إحدى ممرضات الدار.
تحدثت آلاء محمد عن عملها فى الدار، وسردت: أعمل بنظام «شفتات» يومية خلال عملي، أقوم بقياس مستويات السكر والضغط للنزيلات، وتقديم الأدوية المُناسبة لكل حالة فى الوقت المُحدد من قبل الطبيب المُشرف، كما أقوم بقياس السكر قبل وجبات الطعام لتحديد جرعة الأنسولين المُناسبة.
تُجسد آلاء محمد نموذجاً رائعاً لِممرضة مُخلصة تُقدم رعايتها بكل إنسانية وحب.. فلا تقتصر مهامها على تقديم الخدمات الطبية فقط، بل تُقدم أيضاً الدعم النفسى والمعنوى للنزيلات، وتُساعدهن على الشعور بالراحة والأمان.
ملاذ آمن ورعاية كريمة
مروة محفوظ مدير الدار، قالت: تُعد دار رعاية المسنات الكفيفات، التى تم إنشاؤها عام 2021 بدعم من صندوق عطاء، منارة أمل حقيقية لهذه الفئة من السيدات، حيث توفر لهن حياة كريمة شاملة تتخطى حدود الرعاية الأساسية لتشمل احتياجاتهن النفسية والاجتماعية والثقافية.
أوضحت أن الدار تقدم رعاية شاملة على مدار الساعة، حيث الإقامة الآمنة، وتوفر سكناً ملائماً للسيدات الكفيفات غير القادرات على رعاية أنفسهن، مع إشراف داخلى على مدار 24 ساعة لضمان سلامتهن وراحتهن، بجانب الرعاية الصحية، ويوجد بالدار فريقاً من المختصين لتقديم الرعاية الطبية اللازمة للمسنات، ومتابعة حالتهن الصحية بشكل دوري، كما تُقدم الدار برامج متخصصة فى الدعم النفسى والاجتماعى للمساعدة على التكيف مع وضعهن الجديد، وتعزيز ثقتهن بأنفسهن، علاوة على وجود أنشطة ثقافية وترفيهية، حيث تُنظم الدار العديد من الأنشطة الثقافية والترفيهية والاجتماعية، مثل إقامة الحفلات والرحلات، بهدف خلق جو أسرى دافئ يُخفف من الشعور بالوحدة والعزلة.
عن شروط القبول بالدار، قالت محفوظ: ألا تقل سن المتقدمة عن «60 عاماً»، وأن تكون كفيفة، وألا تعانى أى أمراض مستعصية أو معدية، وألا يكون لها مأوى أو أهل لرعايتها، مشيرة إلى أن آليات التقديم تتم عن طريق وزارة التضامن الاجتماعي، أو من خلال إبلاغ الدار من قبل الأهل، وبعدها تتم دراسة كل حالة للتأكد من انطباق شروط القبول عليها.
أضافت «محفوظ» أن معظم الحالات الموجوده فى الدار وصلت عن طريق وزارة التضامن، التى تم إنقاذها من قبل فريق التدخل السريع، وهى حالات بلا مأوي.. أما باقى النزيلات فتم إبلاغ الدار بها عن طريق الأهل وبعدها قامت المسئولة الاجتماعية بالدار بعمل دراسة حالة لمعرفة إذا كانت الشروط والمعايير الموجودة باللائحة تنطبق عليهن أم لا.
ذكرت ان فريق العمل الذى يضمه الدار فريق من ذوى الخبرة والكفاءة العالية فى مجالات الرعاية الصحية والنفسية والاجتماعية، بالإضافة إلى طاقم إدارى مُكرس جهده لخدمة المسنات، حيث تُجسد دار رعاية المسنات الكفيفات رسالة إنسانية سامية تتمثل فى توفير حياة كريمة وآمنة لهذه الفئة من السيدات، وتعزيز شعورهن بالكرامة
أوضحت أميرة الرفاعى المدير التنفيذى لصندوق عطاء الخيرى لدعم الاشخاص ذوى الاعاقة أن بداية إنشاء الدار تم توفير مبيت ومأوى جيد لـ 28 سيدة مسنة كفيفة فوق سن الـ «60 عاما» وبوصول شهر ديسمبر2022، تردد 10 سيدات على مدار فترة تنفيذ المشروع، خرج بعضهن بسبب ظروفهن الصحية وآخرين وافتهم المنية، ما يجعل العدد الإجمالى من المستفيدين من خدمات الدار على مدار المشروع 38 سيدة تلقين خدمات صحية، ونفسية، واجتماعية متميزة.
عن بعض الأنشطة والخدمات المُنفذة خلال المشروع، أشارت «الرفاعي» أنه تم إعداد وتصميم نموذج إدارى للدار يتمثل فى مجموعة من النماذج والاستمارات فى عدد من الأقسام سواء «التغذية، الإشراف، الصحة، البرامج الاجتماعية والنفسية، دراسة حالة، إقرار استلام وتسليم الحالة» وغيرها من النماذج التى تنظم العمل داخل الدار، بالإضافة إلى برنامج ترفيهى وتثقيفى ويتمثل فى «حفلة بيت العيلة، النادى الاجتماعي، الاستفادة من القدرات والخبرات للمسنات فى المطبخ وعمل الأكلات، حفلات رأس السنة والأعياد، رحلات ترفيهية داخل القاهرة وخارجها، أنشطة التحفيز والدعم النفسي»، بالإضافة إلى 12 ورشة عمل فى مجال الاكسسوار والخرز والأشغال اليدوية ومشروعات الحلوى والمخللات.
ذكرت «الرفاعي»: خصصنا برنامج دعم نفسى متخصص من خلال تنفيذ جلسات جماعية عن التحفيز والدعم النفسى للمسنات الكفيفات هدفها خلق جو أسرى وحوار متبادل، وقمنا بعمل عدد من الدورات التدريبية التأهيلية لـ 10 من فريق العمل بالدار، حتى يتم التعامل بشكل جيد مع المسنات الكفيفات، بالاضافة إلى انتظام طبيب الدار فى الكشف على النزيلات وتوفير الرعاية الصحية اللازمة لهن.
قالت إن الهدف من المرحلة الثانية، التأكد من جودة الخدمات المُقدمة بالدار لتوفير مأوى وحياة كريمة لمسنات كفيفات غير قادرات على خدمة أنفسهن.
مشيرة إلى أن مبررات استكمال المرحلة الثانية من المشروع، الاحتياج الفعلى لبناء قدرات فريق العمل بالدار عن كيفية التعامل والتدخل مع المسنات الكفيفات من خلال نتائج دراسة الاحتياجات الفعلية التى تمت عن طريق مؤسستين خبيرتين فى مجال الإعاقة البصرية ورعاية المسنات، وكذلك التأكد من قدرة الدار على تنمية مواردها لضمان استدامة المشروع المُمول من قِبل الصندوق، وذلك من خلال تنفيذ خطة تسويقية بدعم من الصندوق وقياس مدى نجاحها فى استقلالية إدارة الدار.