اتصل بي تلميذي الذي كنت أعرفه ذكيًا نشيطًا متفائلًا أثناء دراسته الجامعية والذي يعمل حالياً سائقًا في إحدى الشركات، ورجاني أن أقابله في أقرب وقت ليأخذ رأيي في أمر سؤال طرحه عليه ابنه وقد احتار في الإجابة ولحسن الحظ حدث انشغال عائلي طارئ عقب السؤال ليأخذ فرصته في الإجابة بعد مناقشته معي.
ماذا لو كنت في مكانه، هل تفعل مثله؟ هذا سؤال وجهه الابن لأبيه ليعرف رأيه بعد حادث التضحية والفداء من قبل السائق “خالد عبد العال” سائق سيارة نقل البنزين التي اشتعلت في محطة وقود بمدينة العاشر من رمضان وعندها قرر الخروج من الموقع بالسيارة بعيداً ليحترق جسده ونحتسبه عند الله من الشهداء الذين ضحوا بحياتهم فداء للآخرين.
قلت لتلميذي: لا أنا ولا أنت نستطيع أن يحكم ساعتها ما التصرف؟ هذا قرار فردي يعتمد على الطبيعة الشخصية فعلق متفقاً معي في الرأي لكن قال لا أستطيع أن أكذب على ابني فأقول له سوف أفعل مثله وأنا بالفعل لا أدري إن كنت أقوم بهذا العمل أو أقرر الفرار بجسدي بعيدًا، وفي حالة الإقرار بالقيام به كعمل بطولي يليق بأبيه فإنه قد يلومني على التضحية بنفسي دون مراعاة لترك أسرتي تواجه ظروف الحياة الصعبة، وبالقطع لو ذكرت أننى لن أفعل مثله قد يراني ابنى جباناً وأسقط من نظره، وأخيرًا، ماذا لو أني نفدت بجلدي وتركت السيارة في مكانها مشتعلة وانفجرت لتكون الخسائر في الأرواح والممتلكات فادحة، كيف أهرب من ضميري، بل أسأل نفسي أي مسؤولية مهنية وأي عقاب قانوني سوف أناله؟
تأملت أسئلته وحيرته وأفكاره حول الموقف ووجدتني أفكر كيف أن الحياة في مواقفها الحاسمة أشبه ما تكون بالحرب، ويبدو الإنسان كالجندي لا تراجع ولا استسلام، فإما القتال إلى آخر نفس والتحلي بالشجاعة وإما الفرار واتهام بالجبن ومن ثم الإدانة.
أنت تقاتل من أجل الآخرين، وعندما تهرب بنفسك فإنك تتخلى عنهم ولن تنجو بنفسك أيضاً. وتسأل: هل التضحية أو الواجب والمصلحة مفهومان مترابطان ومتفقان أم متعارضان؟ يجب إدراك أن التضحية ليست مسألة عقلانية أو وظيفية فالمنطق والموضوعية لا يمكنها تبرير سلوك إنسان ضحى رغبة منه في افتداء الآخرين وحرم أهله ومحبيه من وجوده. لكن رحلة الإنسان في البحث عن المعنى لوجوده تتجاوز أرض الواقع والمنطق، إنها لحظة إلهام لا يمكن تفسيرها أو خضوعها لما هو دنيوي – واقعي، إنه عمل غامض يجعلنا نشعر تجاهه بالهيبة والإجلال دون أن نحاول تفسيره.
وها هي كلمات المبدع “سيد حجاب” تكشف لحظة الإلهام في الوعي الإنساني عندما يقول: “يا دنيا مهما تغري غيري مسيرك تمري وبعد مري تسري نفسي العفيفة الغنية”.