فى كل عيد كانت تأتينا ومعها البهجة والسعادة والفرح، قبل ان تصل إلى دارنا كنا نشم رائحتها الطيبة تهب على القرية كلها، كانت «خالتى سيادة « -وهى الشقيقة الكبرى لأمى – تقطع الأميال والأميال من مركز دسوق حيث تقيم فى إحدى قراه وهى «قرية راغب «إلى مديرية التحرير حيث نقيم فى «قرية أم صابر» حاملة معها الزاد والزواد، كل ما تشتهيه أنفسنا ونحن صغار بدءاً من «حب العزيز « والحمص الذى اشترته من ميدان سيدى إبراهيم الدسوقى وهى فى طريقها إلى محطة قطار دسوق، تحمل فوق رأسها « قفة كبيرة « ويحمل من يصحبها من أبنائها أو شباب العائلة باقى «القفف» الثقيلة المحشوة بكل ما يخطر ببالنا من أرز وذرة ودقيق وعيش فلاحى وفطير مشلتت ورقاق وكل أنواع الأجبان الفلاحى القديم والقريش والسمن البلدى والقشدة.
>>>
الغريب انها عندما كانت تصل إلى الشارع الذى نسكن فيه، كانت أمى تبدو فرحة متهللة وتقول «أنا حاسة يا ولاد ان جايلنا ضيوف عزاز، كنت أقاطعها كعادتى حينئذ، عرفتى منين؟ فكان الرد .. بس يا لمض، أنا قلبى دليلي.. قلبى بيحس بكل حاجة، أنا بينى وبين ربنا عمار، دقائق قليلة ونسمع صوت يأتينا من الخارج «افتحى يا أم نشأت»، ننصت جميعاً لهذا الصوت الذى نعرفه جميعاً، ثم ننطلق فى لحظة واحدة «هيه هيه» خالتى سيادة جت» نسرع جميعاً لنفتح الباب على مصراعية ونقف على عتبة الدار حيث الأحضان والقبلات الحارة الصادقة المجردة فى لحظات إنسانية نادرة.
>>>
لا ينتهى هذا المشهد إلا عندما تبدأ أمى فى سؤال خالتى عن صحة جدتى «هانم» التى تدهورت كثيراً بعد وفاة كل من جدى لأمي.
«عبدالحافظ» وخالى الأصغر «أحمد «وهو الأقرب إلى قلوب العائلة كلها رحمة الله عليهم اجمعين، فجأة تتحول الدموع إلى لغة بليغة فى التواصل بين أمى وخالتي، بكاء مكتوم ودموع جارية ونظرات مهزومة تعبر عن ألم الفراق، فراق الأب والأخ، فجأة تمتد أيادى كل منهن إلى خدود الأخرى تمسح دموعها حانية وفى نفس واحد نسمع صوت الخالة الكبرى «البركة فى الباقيين يا غالية»، كانت قمة لحظات الشغف حين تفتح خالتى سيادة القفف التى أحضرتها وتخرج أمامنا محتوياتها وتعطى كلاً منا ما أحضرته له خصيصاً.
>>>
فهذا يحب المشبك وهذه تحب الحمص وتلك تعشق حب العزيز، كنا نجلس سريعاً على الطبلية الكبيرة نأكل جميعاً مما صنعته يد خالتى فى راغب وأحضرته إلينا فى أم صابر من الأرز المعمر بألذ الطيور والمرتة والفطير المشلتت، بعد هذا العشاء اللذيذ، تدخل أمى وخالتى فى حالة حوار عائلى وإنسانى مفصل عن كل ما جرى ويجرى فى محيط العائلة والمعارف والأصدقاء، من رحل ومن ينتظر الرحيل، كانت خالتى تقطع حوارها مع أمى فقط عندما ترانى انظر اليها، وتقول لى « يا أمير يا ابن الأمراء ربنا يخليك لأمك ويباركلها فيك وتكون يا نشأت يا ابنى عوضا لها بعد وفاة أبيك عليه رحمة الله « وكانت امى شديدة وحاسمة فى تربيتنا، وكانت حريصة كل الحرص على تعليمنا وتثقيفنا وتفوقنا الدراسي.
>>>
كانت تقول «اللى بيأكل على ضرسه بينفع نفسه»، كانت عباراتها الأساسية « من طلب العلا سهر الليالى « و» يا بخت من بكانى وبكى عليا ولا ضحكنى وضحك الناس عليا «، كان الضرب بالشبشب هو عقاب الكذب وكل منا له شبشب مخصص يقذف به حال ضبطه متلبساً بتهمة الكذب، وكان التوبيخ هو عقاب ترك الصلاة، اما عقاب نقص درجات الامتحانات أو تراجعها فكان بمثابة المصيبة الكبرى فهو القطيعة التامة لعدة أيام وهى أقسى أنواع العقاب،
>>>
فى أجازة العيد الحالى كنت أجلس مع أمى فى غرفتها ورأيتها تنظر إلى باب الدار وكأنها تنتظر صوت « خالتى سيادة « يناديها .. افتحى الباب يا أم نشأت، لكنها لا تدرى ان «سيادة « قد رحلت ورحل معها صوتها، ولم يبق إلا الذكريات « وباب الدار.
.