ليست الأمور دائما كما تبدو عليه، وليس شرطا أن يكون الأمر كما تراه أعيننا، فليس كل ما يلمع ذهبا وليس كل ما يعلوه الصدأ بلا قيمة، فقد تجد أناسا يلمعون فى سماء النجومية وتظنهم نجوما حقيقية خرجوا من رحم الهندسة الكونية، لكنك تندهش حين تراهم يتساقطون أمام عينك وتتحول حزم النور والضياء المصطنعة إلى ذرات من الغبار الخانق والتراب المسموم، بيد أن كثيرا مما تراه يلمع أمامك يستمد نوره المزيف ولمعانه المؤقت من «المكان» الذى وُضع فيه، فإذا أُخرِج من هذا المكان بعد اكتشاف هشاشته وبلادته وأنانيته صار بلا «مكانة» وأصبح هو والعدم سواء، وهناك فى حياتنا وبين ظهرانينا «أصفار كبيرة» مهمتها أن تشغل حيزا كبيرا من الفراغ، فتتضخم ذواتها وتنمو فى مستنقعات «الوهم الخلاق» فتلتف حولها الفطريات السامة وأعداد هائلة من الهاموش تصنع طنينا ساحرا حول هذا السراب لتحقيق أهدافها من البقاء حول هذه الأصفار، ولقد علمت من دروس التاريخ أن كثيرين تخدمهم الظروف والمواءمات وربما الصدف فى الوصول الى مكان مرموق، القليلون منهم هم القادرون على اقتناص الفرصة واستثمار المكان لإضافة بصمة حقيقية يشهد لها الجميع وتبيض وجوه الجميع، وكثيرون يقفون حراسا على صرح تفاهتهم ويدافعون باستماتة عن رماديتهم وعجزهم، إذا تحدثت مع أحدهم ناصحا ينظر اليك من طرف خفى ولسان حاله يقول: «احتفظ بنصائحك لنفسك» فهو يرى أن طريقه الرمادى وطريقته السطحية هما سر وجوده فى هذا المكان، ورويدا رويدا يتسلل اليه الغرور وتتسلط عليه الثقة المزيفة، فيرى القراءة والكتابة والتفكير والتحليل سفسطة فى غير موضعها وفى غير أوانها، هؤلاء لن يحققوا «مكانة» مهما علت أماكنهم فهم والعدم سواء، لا يؤثرون ولا يتأثرون ولا يفهمون ولا يُفهمون لا يخافون خالقا ولا يحترمون مخلوقا، حماقتهم أعجزت كلماتي، لذلك آمنت منذ طفولتى أن المكان أبدًا لن يصنع مكانة ولا يخلق احتراما ولا يولد حبا، أحد هؤلاء يحيطون أنفسهم طوال الوقت بهالة من الأكاذيب والأباطيل والأضاليل حتى يصدقوا أنفسهم، لكن دروس التاريخ علمتنا أن هؤلاء ميتون ولا ذكرى لهم رغم وجودهم على قيد الحياة فهم ميتون ولم تستخرج شهادة وفاتهم بعد، وهناك أناس صدقوا ما عاهدوا الله عليه وعملوا واجتهدوا وأخلصوا لوطنهم ومبادئهم فتربعوا فى قلوب الجميع حتى بعد رحيلهم، خلاصة مقالى أن الإنسان منا عليه أن يبحث عن ذاته حتى وسط ركام نفسه ويعلم أن المكان زائل والمكانة باقية فلنحرص على بناء مكانتنا ولا تضيع أوقاتنا فى الوصول الى أماكن لن تبقى ولن تدوم.