عبر السنوات الماضية وتحديدا منذ (2011) حاول الإرهابيون والدواعش اختطاف أمرين فى غاية الاهمية.. الأول: ثورات الربيع العربى وأشواق الإصلاح وتحويلها إلى ثورات للارهاب والفوضى وخدمة إسرائيل.. فى هذه السنوات الصعبة والتى اجتازتها مصر بفضل الله وبفضل مئات التضحيات.. ولاتزال أغلب الدول العربية التى أبتليت بها.. تعانى منها وتحاول التغلب عليها.. الأمر الثاني: اختطاف صحيح الاسلام.. ففى تلك السنوات قام الإرهابيون بتشويه الاسلام المحمدى الأصيل من خلال توظيف الفتاوى والسياسات الشاذة ونسبتها إلى الإسلام.
وفى إطار مواجهة تلك الظاهرة – خاصة فى شقها المتصل باختطاف الإسلام المحمدى – من جذورها لابدّ وأن نبدأ بفَهمها، وفى هذا السياق يُحدّثنا التاريخ الإسلامى بأن التعبير عن الرأى الاجتهادى عقديّاً وفقهيا ظلّ فى أدبيات الإسلام ضمن الضوابط المُقرّرة، وكان أمراً مشروعاً، وحقاً مكفولاً للجميع، ولا يصحّ أن تحتكره جهة وتصادره من الآخرين، فإن ذلك إرهاب فكري، وإغلاق فِعليٌّ لباب الاجتهاد، وحِرمان للساحة العلمية من الثراء المَعرفي.
لكن الحَذَر كان ولايزال من وجود آراء خاطئة، وطروحات مُنحرِفة، تخالف المُعتقدات السائدة، والاتجاهات الفقهية المشهورة، كما هى حال موجات الاخوان والقاعدة وداعش وأخواتهم وهذا ما ينبغى مجددا اليوم (2024) التصدّى له، ليس بالاستعراضات الفكرية بل بالمواجهة العلمية الفقهية الرصينة، التى تثبت ضعف الرأى الآخر وخطأه، ومكامن الانحراف والثغرات فيه، وتظهر صحّة الرأى الإسلامى الحق وأصالته، وتُعالج الإشكالات المُثارة حوله.
❊ لقد أثبتت الموجة الداعشية وثورات ما سُمّى بالربيع العربى أن أحد أبرز أهدافها كان هو تمزيق صفوف المسلمين وتحويل ساحتهم إلى خنادق للصراع والاحتراب، ودفعهم إلى انتهاك حُرمات بعضهم بعضاً، وإسقاط كل طرف وتشويهه لرموز وشخصيات الطرف الآخر، وهو هدف يُعدّ بمعايير الدين الصحيح جريمة أكبر وخطراً أعظم.
ثم إن تعاليم الإسلام وأخلاقياته، وسيرة النبى والأئمّة والصحابة الأخيار ترفض الإرهاب باسم الدين ولا تقبل مثل هذه الأساليب ولا تتطابق معها، فالإرهاب الذى اختطف الإسلام أول ما طال، طال البلاد الإسلامية نفسها، فى البداية لأسبابٍ مختلفة ولكنها تعود لأصلٍ واحدٍ هو الفَهْم الخاطئ والتأويل المُتعسّف لآيات القرآن الكريم، والتى تذهب لغير المعانى التى يجب فَهمها على حقيقتها القرآنية، وفى تاريخ ظاهرة الإرهاب تُحدّثنا وقائع التاريخ أن أغلب الدول الإسلامية، شهدت منذ مطلع سبعينات القرن العشرين، تنامى وبروز ظاهرة ما سُمّى بـ (الإحياء الإسلامى أو الصحوة الإسلامية)، وهى ليست بالظاهرة الحديثة أو الجديدة، بل يمكن تتبّع جذورها وامتداداتها عبر التاريخ الإسلامى بخبراته ومراحله المختلفة.
❊ اتّخذت هذه الظاهرة صوَراً وأشكالاً مُتعدّدة، ثقافية وفكرية، اقتصادية واجتماعية، سياسية وسلوكية، وقد تضمّنت الكتابات والدراسات التى تناولت تلك الظاهرة مجموعة ضخمة من المُصطلحات لتعريفها، منها على سبيل المثال: الإسلام السياسي، ويُقصَد به توظيف الإسلام لتحقيق أهداف سياسية، والإسلام التقدّمى وهو الذى يتضمّن تطبيق الاشتراكية ولا يتعارض مع التحديث، والإسلام التقليدى وهو الذى يتعارض مع العِلمانية والتحديث، وإسلام الصحوة، والإحياء الإسلامى والأصولية الإسلامية وغيرها، ولكن يُلاحظ أن هناك مَن استخدم فى تعريف ظاهرة الإحياء هذه مُصطلحات ومفاهيم تربط بين الإسلام وأنماط من العنف والإرهاب مثل: الإسلام الثورى والإسلام الراديكالى والإسلام من أعلى والإسلام المُتشدّد والإسلام المُسلّح والعنف الإسلامى وأخيراً الإرهاب الإسلامي، ولقد استخدمت بعض الحركات الإسلامية العنف السياسى كوسيلةٍ للتغيير فى بلدانها، كما فى حال جماعات الاخوان والجهاد والجماعة الإسلامية فى مصر، وفرع جماعة الإخوان المسلمين فى سوريا، وحزب التحرير فى الأردن، بينما استخدمت جماعات أخرى القوّة بعد فشل تجربتها فى الوصول إلى الحُكم من خلال صناديق الاقتراع كما فى حال جبهة الإنقاذ فى الجزائر، وجماعة حسن الترابى فى السودان.
أما ما جرى خلال الفترة من 2011 إلى اليوم (2024) فلقد كان عُنفاً أعمى ضد الإسلام ذاته، لقد أضحى هذا العُنف الذى تمارسه تلك الجماعات (من الاخوان والقاعدة إلى داعش والنصرة)، إفرازاً لفلسفة معيّنة وثمرة لفُقه خاص له وجهته ومفاهيمه وهو بالأساس الفكر الخوارج الجدد وهو فى تقديرنا أصل البلاء ومصدره الذى يستوجب من كل عُقلاء الأمّة أن يدعوا إلى اجتثاثه لأنه امتداد لفكر وفُقه الخوارج قديماً الذين كانوا يقرأون القرآن فلا يجاوز حناجرهم.
وهو فكر لا يفهم لغة العقل ومن ثم لا يفهم صحيح الإسلام، ذلك الدين الذى يدعو إلى إعمال العقل فى كل أمور الحياة مع استبعاد لغة العنف والقمع، وإنما بمنطق الحجّة والبرهان: «قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ». «قُلْ هَلْ عِندَكُم مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا». «لِّيَهلِكَ مَن هَلَكَ عَن بَيِّنَة وَيَحييَ مَن حَيَّ عَن بَيِّنَة». «لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ».
تلك هى المبادئ الناظِمة للمواجهة الفكرية، لإثبات حقّانية الدين وبُطلان ما عداه.
ولا يقبل الإسلام الإساءة إلى المُخالِف فى الدين والرأى لمُجرّد مُخالفته، ما لم يمارس عدواناً يستلزم الردّ والردع.
كما لا ينصح الإسلام بالقطيعة مع المُخالفين، بفصل وشائج العلاقات الإنسانية والاجتماعية معهم. بل على العكس من ذلك يوصى بالبرّ بهم والإحسان إليهم ما داموا مُسالمين غير مُعتدين.
يقول تعالي: «لا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ»، ذلك هو طريق الأنبياء فى فَهمهم للدين، وفى ما أخذوه من الله سبحانه وتعالي، التسامُح والعدل والإخاء وعدم إكراه الناس على الدخول فى الدين، وتلك مفاهيم وقِيَم تُخاصمها الداعشية المنتشرة – خلاياه المسلحة – اليوم فى بلاد المغرب العربى وبلاد الشام.. مستخدمة سلاح الإرهاب بإسم الدين وهذا الاستخدام هو أخطر أنواع الإرهاب، هكذا قالت لنا تجربة السنوات الماضية فى ذلك الربيع المُزيّف والذى يصدق عليه اليوم أن يسمى (الربيع العبري.. وليس العربي) حفظ الله مصر وأمتنا العربية منه ومن بقايا شروره!.