وفقًا لأحدث تقرير صادر عن معهد التمويل الدولي، فقد تجاوز الدين العالمى 324 تريليون دولار، أى ما يعادل أكثر من ثلاثة أضعاف الناتج المحلى الإجمالى لكوكب الأرض خلال عام واحد.
رقم بهذه الضخامة لا يعكس فقط عجز الحكومات عن إدارة اقتصادها، بل يكشف عن اختلالات أعمق فى بنية العلاقات الاقتصادية والسياسية بين الدول.
الحكاية بدأت مع أزمة الرهن العقارى -الأزمة المالية عام 2008- حين لجأت الدول الكبرى إلى الاقتراض لتفادى الانهيار، ثم جاءت جائحة كورونا لتجيز الطباعة العشوائية للنقد، وتوسيع برامج الدعم، دون خطط طويلة المدى وبعدها أشعلت الحرب فى أوكرانيا مزيدًا من التوتر الاقتصادي، ودفعت الحكومات إلى مزيد من الإنفاق على الدفاع والطاقة، مما جعل الدين يتحوّل من وسيلة مؤقتة إلى عادة دائمة.
لكن المشكلة لا تكمن فى تضخم الأرقام فقط، بل فى الطريقة التى يُستخدم بها هذا الدين. فحين ينفق المال العام لتسكين الأزمات لا لبناء مشاريع إنتاجية، يصبح الدين أداة لإدامة الفشل لا لتجاوزه، وعليه فإن الدول التى لا تنتج تصبح أكثر تبعية للأسواق العالمية، وأقل قدرة على حماية سيادتها، وأكثر هشاشة أمام التقلبات الخارجية.
وفى زحمة هذا السباق نحو الدين يصبح العالم العربى مشهداً بانورامياً لدرجات التفاوت بين من استثمر الفوائض فى بناء اقتصاد متنوع .
لكن السؤال الحقيقى الذى لا يزال معلقاً فى هواء المنطقة هو ما الذى نفعله بالديون، هل نبنى بها جسوراً نحو المستقبل أم نردم بها فجوات الحاضر فقط؛ هل تُستخدم كرافعة اقتصادية أم تتحول إلى حجر ثقيل يشدنا إلى القاع. ما قيمة النمو إذا لم يكن منتجاً شاملاً قابلاً للديمومة. ماذا يحدث حين تفقد الأسواق ثقتها وتبدأ فى تسعير المخاطر لا الآمال.
الفرصة لا تزال متاحة لكنها لا تنتظر طويلاً. ثلاث خطوات مطلوبة بشجاعة: بناء اقتصاد يولد دخله من داخله، وبناء شراكات إقليمية تكسر وهم النجاة الفردية؛ وأخيراً بناء مؤسسات تعرف معنى الشفافية وأثر الكفاءة. فالحوكمة ليست شعاراً تكنوقراطياً، بل ضمانة للبقاء فى عصر لا يرحم من يتلعثم فى أولويات الإنفاق.
والنجاة من هذه الحلقة تتطلب وضوحًا فى الرؤية، ومؤسسات تملك الكفاءة والشفافية. فالمستقبل لا يُبنى بالدين وحده، بل بالإنتاج الحقيقي. الدين ليس لعنة حتمية لكنه يصبح كذلك حين ننسى أن الأمم تبنى بالإنتاج لا بالأرقام المترهلة، وبالإرادة.