لم أكن أميل فى أى وقت إلى ذلك الرأى الذى يفرق بين «إقامة العمران»، و«بناء الإنسان»، ويضعهما ـ غصباً ـ فى موضع التعارض والمواجهة التى تستدعى تحديد أى الهدفين أو التوجهين يجب أن يسبق الآخر، أو كما حسمها البعض فى مقولة بدت لهم خلابة، ونسبوها إلى فقه الأولويات، وهي: «البشر قبل الحجر».
وكنت، ومازلت أرى أنه لا تعارض على الإطلاق بين التوجهين، بل هما متكاملان تمام التكامل.. هذا من ناحية.. ومن ناحية أخري، فإنه ـ حتى فى ترتيب الأولويات، فإن بناء الإنسان لا يمكن أن يتحقق إلا باكتمال العمران.
كيف نبنى إنساناً فى مجال التعليم مثلاً قبل أن نوفر له مدرسة يتعلم فيها، أو نحمى صحة إنسان البدنية والعقلية دون أن نوفر له مكاناً لعلاجه، وكيف نوفر له فرصة عمل أو مستوى مناسباً للمعيشة دون إنشاء مصانع ووحدات إنتاجية وخدمية، وبنية أساسية من طرق ووسائل نقل إلى آخره.
بل كيف نطمئن على سلامة وعى المواطن وعمق انتمائه لوطنه، ونحن نتركه مهمشاً، يصارع الحياة فى العشوائيات بلا سكن مناسب، ولا خدمات كافية، تشعره بأنه جزء من هذا الوطن، وأن من يقومون على أمر الوطن يرونه ويشعرون بمعاناته ويعملون على تغيير حياته إلى الأفضل.
وكنت ومازلت أتعامل مع مقولة: البشر قبل الحجر، على أنها جزء من تلك الحملة الممنهجة التى انطلقت مع نجاح الدولة فى إنجاز العديد من المشروعات العملاقة، التى شملت كافة مجالات العمران، وطالت جميع أرجاء البلاد بصورة لم تشهدها مصر من قبل.
فلم يجد مخططو هذه الحملة فى هذه المشروعات فى ذاتها ما يمكن أن يقنع المواطنين البسطاء برفضها أو مهاجمتها، فلجأوا إلى صك هذا الشعار والترويج له، خاصة بين من ينظر إلى هذه المشروعات بمنظور احتياجات اللحظة الراهنة، وليس بفكر ورؤية وطن ومستقبل شعب لعشرات السنين القادمة.
ومن هذا المنظور، ورغم تعدد المشروعات العملاقة، والمبادرات الخلاقة، التى تم إنجازها أو إطلاقها على مدى السنوات العشر الأخيرة، فقد كنت، ومازلت أيضاً، أرى أن المبادرة الرئاسية المسماة «حياة كريمة» والتى استهدفت ومازالت تطوير الريف المصري، وامتدت إلى المدن أيضاً، هى «أم المبادرات» و«تاج المشروعات» التى جسدت وتجسد حقيقة التكامل على أرض الواقع بين البنيان والإنسان.
وربما يكون أحد أسبابى فى الاهتمام بهذه المبادرة، ومتابعتها يوماً بيوم منذ انطلاقها، من خلال ما يصلنى من رسائل قراء الصحيفة من مختلف المحافظات عما تم إنجازه منها وما تعثر، أننى كنت من أوائل من أطلقوا الدعوة إلى أن القرية المصرية هى الحل السحرى لكل مشاكل مصر، وذلك فى مقال بهذه الزاوية بعدد الخميس 18 أغسطس 2016 بعنوان «القرية المصرية هى الحل» وقمت بتطوير فكرته إلى شبه مشروع متكامل لتطوير القرية المصرية نشر بنفس المكان بعدها بثلاث سنوات وتحديداً فى 19 ديسمبر 2019، وذلك قبل انطلاق مبادرة «حياة كريمة».
وحين انطلقت «حياة كريمة» على أرض الواقع، فإنها بدت مبادرة «وهاجة» وشاملة لكل ما يتعلق بالقرية المصرية، بشراً وحجراً، من بناء وتجديد مدارس إلى وحدات صحية، إلى مجمعات خدمات حكومية، إلى تطهير وتبطين ترع ومصارف، ورصف طرق، وتنمية زراعية وثروة حيوانية ومشروعات صغيرة للأسر المنتجة ومراكز وملاعب للشباب ودور رعاية للأطفال وللمسنين ومقار حديثة للشرطة وغير ذلك مما يصعب حصره من مجالات تحقق بالفعل الحياة الكريمة لأكثر من نصف تعداد سكان مصر، وبموازنة خاصة اقتربت من الثمانمائة مليار جنيه.
هذه المبادرة أحدثت نقلة نوعية حقيقية وليست شكلية فى حياة مواطنى الريف والمدن التى طالتها، لكنها تعرضت قرب نهاية مرحلتها الأولى لما تعرضت له العديد من المشروعات من آثار سلبية للأزمة الاقتصادية العالمية على مصر، وما أدى إليه نقص التمويل من توقف استكمال بعض المشروعات أو إرجاء بعضها لحين ميسرة.
وخلال الفترة الأخيرة جرى الحديث عن قرب انطلاق المرحلة الثانية من المبادرة دون تحديد موعد لذلك بل صدرت تصريحات وزارية عن عدد القرى والمدن التى ستشملها هذه المرحلة، وفى أى المحافظات.
وأول أمس ـ الثلاثاء ـ أعلن رئيس مجلس الوزراء د.مصطفى مدبولى إطلاق مبادرة رئاسية جديدة بعنوان «بداية» جرى التبشير بها قبل أسابيع، وأنها بداية جديدة لبناء الإنسان، وذلك فى احتفال مهيب بحضور حشد كبير من الوزراء والمشرعين وأجهزة الإعلام والصحافة وغيرهم.
ووصف رئيس مجلس الوزراء المبادرة بأنها «عقد اجتماعي، تجسد الاهتمام بالعنصر البشري، وترفع الأعباء عن المواطنين» ودعا جموع الشعب إلى المشاركة فيها، والاستفادة من خدماتها، كما دعا المجتمع المدنى إلى التعاون لتحقيق أهدافها.
ورأيى أن هذه المبادرة مكملة لمبادرة «حياة كريمة» وإن بدت أكثر شمولاً لأنها تستهدف الشعب المصرى كله، وأن إطلاقها لا ينبغى أن يصرفنا أولاً عن استكمال ما توقف من مشروعات المرحلة الأولى من «حياة كريمة»، وثانياً عن تحديد موعد انطلاق المرحلة الثانية للقرى والمدن التى لم تصل إليها المرحلة الأولي، تتويجاً للمبادرة.
لقد قدمت مصر فى مبادرة «حياة كريمة» نموذجاً يحتذى لكل الدول النامية فى تطوير القطاع الريفى من المجتمع واعترفت الأمم المتحدة وأجهزتها المتخصصة ذات الصلة بأن هذه المبادرة تقع على رأس مشروعات التنمية على مستوى العالم.
«حياة كريمة» هى البداية الحقيقية لبناء الإنسان المصرى والهدف الدائم للدولة تجاهه.