احتفلت مكتبة مصر العامة فى الجيزة يوم 11 الجارى بالذكرى التاسعة والعشرين لافتتاحها.. وهى المكتبة الأم لمنظومة مكتبات مصر العامة التى يرأس مجلس إدارتها السفير عبدالرءوف الريدي، والتى بلغ عددها حتى الآن 27 مكتبة عامة كانت أحدثها مكتبة مصر العامة فى أسوان التى افتتحها السيد الدكتور مصطفى مدبولى رئيس مجلس الوزراء بحضور الدكتورة نيفين الكيلانى وزيرة الثقافة واللواء هشام آمنة وزير التنمية المحلية واللواء أشرف عطية محافظ أسوان يوم 20 يناير 2024 وهى المنظومة التى يتبعها 14 مكتبة متنقلة تقدم خدماتها المكتبية والثقافية فى العديد من مراكز ومدن وقرى محافظات مصر المختلفة.
حيث أصبحت هذه المكتبات منارات ثقافية ومراكز للإبداع وتشجيع المواهب من الأطفال والشباب وذوى الاحتياجات الخاصة.
حياة بلا إبداع هى حياة رتيبة جامدة وغير متجددة فالإبداع سنة الإنسانية وسنة الحياة.
فإذا كان الإبداع ضرورة حياتية، فإن المكتبة العامة وهى تخاطب جمهورها وروادها مطالبة ربما أكثر من أى جهة أخرى بأن تضع الإبداع نصب أعينيها، لما للإبداع من تأثير وجذب ليس فقط للمزيد من زوار المكتبة ولكن أيضاً لكل صاحب رؤية مبدعة يبحث عن بيئة حاضنه لإبداعاته.
ويشهد عالم اليوم تطورات وطفرات تنموية غير مسبوقة حيث تعددت وفاقت آثار ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التى نعيشها حالياً ما سبقها من أثارًا تحققت بفعل ثورة الفحم والبخار وثورة اكتشاف البترول والغاز وكذا ما أحدثته ثورة اكتشاف الكهرباء من تأثيرات جذرية فى حياة البشرية. وقد تزامن مع هذه الطفرة التكنولوجية والتى توصف بالثورة الرابعة وما ارتبط بها من اكتشافات الذكاء الاصطناعى والهندسة الوراثية والخلايا الجذعية وعلوم ارتياد الفضاء والإنسان الآلى وغيرها تزامن مع ذلك ظاهرة العولمة وما ارتبط بها من فضاءات مفتوحة وتخطى أثار الحدود التقليدية المعروفة.
وقد خلقت هذه التطورات فرصًا وتحديات فى نفس الوقت للجميع، فرصًا تستفيد من إيجابياتها وتحديات قد تحدث إخفاقات ما لم يتم إحتواؤها ومعالجة آثارها السلبية.
وظنى أن عالم المكتبات بما فيه المكتبات العامة ليس بمعزل أو بالأصح لا ينبغى أن يكون بمعزل عن هذه الثورة التكنولوجية التى تجتاح العالم بكل ما تمثله من فرص وبكل ما تفرضه من تحديات، حقيقة إن هناك من يتخوف أو يردد بأن أرفف الكتب التقليدية قد تختفى من المكتبات العامة فى غضون عدة عقود قادمة بفعل الطفرة الرقمية.. وان المكتبات ذاتها قد تصبح إرثاً من الماضى ولكن الحقيقة الأهم أن الكتاب الورقى سيظل باقيًا ما بقى الإبداع البشري، بل ويمكن أن يصمد لقرون عديدة قادمة فوق أرفف المكتبات ويظل مرجعًا رئيسيًا لكل أفرع المعرفة إذا ما عرض بصورة جذابة واستمر فى مواكبة كل فروع المعرفة الجديدة وإذا ما قدم للقارئ بأسعار تناسب دخله ومستواه الاجتماعى وإذا ما اجتهد المكتبيون فى الترويج للكتاب وزيادة الوعى بأهمية القراءة لدى النشء فى المدارس والجامعات وغيرهما من دور العلم المختلفة، ولن يقلل من قيمة الكتاب الورقى تقديمه بصورة رقمية استفادة من الثورة التكنولوجية، كما أن الكتاب المسموع قد يجد رواجًا لدى شريحة كبيرة من المجتمع خاصة أولئك الذين فقدوا نعمة البصر وكذلك من لا يجيد القراءة والكتابة، وهنا يجب أن تظل المكتبة هى الحاضنة لأوعية المعلومات الورقية والسمعية والبصرية معًا، خاصة أن الثورة الرقمية سوف تقدم للمكتبة أدوات تطوير جديدة ومواد كثيرة جاذبة سواء لروادها أو العاملين بها سواء بسواء.
وقد أصبحت المكتبات العامة تمثل فى عالم اليوم أهمية خاصة فى ضوء الدور الذى يمكن أن تلعبه فى عملية التنشئة الاجتماعية، وبقدر انتشار المكتبات العامة فى أى دولة بقدر نجاح هذه الدولة فى اجتياز العديد من العقبات التى تعترض عملية التنشئة الاجتماعية فيها، وكذا عملية التنمية المستدامة حيث أصبحت المكتبة تمثل ضرورة مجتمعية، جنبًا إلى جنب مع المدرسة والجامعة والمسجد والكنيسة لضبط ايقاع سلوكيات الأفراد فى المجتمع وربط هذه السلوكيات بثوابت الدولة التاريخية والقيمية والدينية والثقافية والأخلاقية وتوسيع مدارك الفرد ليتمكن من خلال ما تتيحه له المكتبات العامة من مصادر متعددة ومتنوعة للمعلومات والمعرفة من مواكبة الثورات التكنولوجية المتعاقبة التى يمر بها عالمنا المعاصر.
ويعد دور المكتبات العامة مكملاً لدور المدارس والجامعات فى عملية التنشئة الاجتماعية، وهو دور ضرورى وأساسى وليس تنافسياً حيث تقدم المدرسة وربما الجامعة منهجًا دراسيًا محددًا بينما تقدم المكتبة مدارس فكرية متعددة وتتيح لروادها انفتاحًا علميًا وفكريًا على كافة أنواع المعرفة بلا حدود أو قيود وهى بمثابة بستان زاخر بكل أنواع و أشكال الورود المعرفية التى تمكن زائرها بأن يستمتع بها ويقطف ما يشاء من ورودها حيث تحقق بذلك التوازناً بين ما هو أدبى وما هو علمى وأصبحت الثقافة العلمية واحدة من أهم شواغلها فى عالم اليوم المتغير والذى يشهد طفرات ووثبات بل ثورات علمية غير مسبوقة، وتوازن بين ما هو تاريخى وما هو جغرافى وبين ما هو حقائق وما هو افتراضات وأحلام، متابعة فى ذلك كل ما يجرى من تطورات فى عالم المكتبات من حيث الشكل ومن حيث المضمون فلا يمكن لمكتبات أن تتجاهل الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعى والتكنولوجيا البازغة، حقيقة سيظل الكتاب متوجا فوق عرشه فى أرفف المكتبات العامة سواء عرض بصورته الورقية التقليدية أو فى صورة رقمية جديدة.
وعلى عالم المكتبات أن يعتبر الثورة الرقمية فرصة وليست تحديًا للاستفادة منها فى نوعية وكمية المعروض والمتاح من الكتب، فالكتاب المسموع على سبيل المثال يمكن أن يكون مفيدًا لشرائح قد تكون مهمشة معرفيًا فى مجتمع مازالت تمثل فيه الأمية الأبجدية واحدة من أهم ما يواجهه من تحديات وعقبات على طريق النمو والتقدم كما أن شرائح كثيرة من ذوى الاحتياجات الخاصة يمكن أن تستفيد يقيناً من مثل هذه الثورة الرقمية.
وقد يثار تساؤل حول العلاقة ما بين المكتبة العامة والمكتبة الرقمية، هل تعتبر الأخيرة منافس أم هى بديل أم هى مكمل؟ الإجابة بكل بساطة أنها علاقة تكاملية حيث يمكن للمكتبة العامة بل من الضرورى ألا تتجاهل المكتبات العامة الثورة الرقمية فى كل وظائفها الإدارية وفى كل ما تقدمه من أوعية معلومات، وعلى المكتبة العامة أن تضطلع بدورها فى محو الأمية الأبجدية، وعليها فى نفس الوقت أن تقدم لروادها كل ما يشبع تطلعاتهم فى الوقوف على أحدث ناتج العقل البشرى من علوم ومعرفة واختراع، ويجب ألا تغفل المكتبات إلمام كل العاملين بها بأحدث التقنيات والأدوات المكتبية سواء من خلال الدورات الخارجية بالاحتكاك والتواصل من خلال الدورات التدريبية مع شركاء التنمية من الدول الصديقة والتى قطعت شوطا متقدما ومتطوراً فى عالم المكتبات، أو من خلال التدريب المتواصل دون توقف أو من خلال ورش العمل أو المؤتمرات المتخصصة.
لعل منظومة مكتبات مصر العامة بفروعها البالغة حتى الآن 27 فرعًا، تمثل قصة نجاح حقيقية فى عالم المكتبات فى مصر سواء من حيث مواقعها المتميزة ومنشآتها، أو من حيث ما تقدمه من أنشطة تتراوح بين ما هو ادبى وما هو علمي، وما هو بحثى وما هو فني، تقدم العلم وتقدم الثقافة وتمزج كل ذلك بالفنون، حيث أصبحت بعض المكتبات تتباهى بفرقتها الفنية وأخرى تتباهى بفرقتها الموسيقية وثالثه بفرقة الفنون الشعبية والرقصات الفلكلورية، وتعقد مسابقات فى الخط والشعر وفى الابتكار، كما أصبحت المشغولات اليدوية والخزف تمثل واحدة من سمات هذه المكتبات.