أخيراً، وبعد سنوات طويلة من الانتظار، صدر حكم المحكمة الدستورية العليا لكى ينصف أصحاب العقارات السكنية الذين وقعوا ضحية للقانون القديم للعلاقة بين المالك والمستأجر، والذى يتم بموجبه تأجير شقة سكنية ربما فى بعض الأحياء السكنية الراقية بقيمة ثمن كيس «شيبسي» أى بعشرة جنيهات فقط لا غير.. فى حين تؤجر مثيلة لها وفقاً لقانون الإيجار الجديد بعشرة آلاف جنيه شهرياً.
وبعيداً عن هذا الظلم البيّن الذى كان واقعاً على أصحاب العقارات وجهود الحكومة من أجل إحداث التوازن والاستقرار المجتمعى كما أشار رئيس الوزراء من أجل علاقة صحية سليمة بين المالك والمستأجر تحقق العدل والاستقرار المجتمعى فى نفس الوقت.. أعتقد أنه حسناً أن تنبهت الدولة من أجل إنقاذ الثروة العقارية التى تعرضت للإهمال الشديد بسبب غياب عمليات الصيانة والإصلاح، بعد أن أصاب أصحاب هذه العقارات الإحباط واليأس نتيجة لما تعرضوا له من ظلم بيّن على مدى الستين عاماً الماضية لنصرة حكومات ثورة يوليو المستأجرين على حساب الملاك، عندما كانت تصدر القرارات الثورية فى أوائل الستينيات ومنتصفها بتخفيض الإيجارات بنسب وصلت إلى 35٪ حتى عام 1965، ثم تجمدت القيم الإيجارية عند هذا الحد، فصارت الشقق القديمة هى السلعة الوحيدة التى لا يزيد سعرها.
ولعله من المفارقات أن الغريب الزائر لبلدنا يدهش ولا يصدق عندما يعرف أن هناك شققاً سكنية تزيد مساحتها على مائتى متر تضم 4 و5 غرف فى أحياء راقية وإيجارها الشهرى سبعة جنيهات وخمسة جنيهات، فى حين أن هذا الغريب الزائر كما هو حادث الآن بالنسبة للسودانيين والسوريين واليمنيين وربما أخيراً اللبنانيين النازحين من جحيم سفاح القرن نتنياهو، يستأجرها من الباطن بمبلغ شهرى قد يتجاوز خمسة عشرة ألف جنيه.
أما الشيء الذى يصيب البعض بالجنون، أن هذا المبلغ لا يدخل جيب صاحب العقار أو ورثته من الأرامل أو الأيتام محدودى الدخل، وإنما يدخل جيب المستأجر الذى ورثته الحكومات السابقة على مدى أكثر من نصف قرن هذه الشقق الفاخرة عن آبائه وربما أجداده، وقد استحل هذا المال الحرام بفعل تقاعس السلطة التنفيذية التى كانت تؤجل الإصلاح من دورة برلمانية إلى أخرى لعدم قدرتها على المصارحة والمكاشفة وإرضاء المستأجرين على حساب الملاك الأوائل الذين كانوا يوجهون مدخراتهم فى العقارات المؤجرة قبل التمليك الذى شاع بعد ذلك، وكانوا- رحمهم الله- يقومون بدور اجتماعى مهم وهو تسكين الشباب ومساعدتهم على تكوين أسرة جديدة.
بالتأكيد، كان الخطأ «الثوري» لا يفتقر فى التعامل مع قضية الإسكان، لأن الأجيال الحالية تدفع الآن ثمنه بعد أن توقف أصحاب رءوس الأموال والمقاولون عن البناء بغرض التأجير، وظهر مع أوائل الثمانينيات البناء بهدف التمليك وكذلك فعلت وزارة الاسكان وهيئة المجتمعات الجديدة التى تبيع الآن شققاً فى الصحراء بأرقام تتجاوز الثلاثة ملايين جنيه ويبلغ قسطها السنوى بعد أكثر من نصف الثمن 30 و40 ألف جنيه شهرياً.
>>>
حقاً جاء حكم المحكمة الدستورية برداً وسلاماً على أصحاب هذه العقارات وورثتهم، لأن الحكومات الثورية فى الستينيات بالغت فى ظلم هؤلاء المصريين الذين كانوا يساهمون فى حل مشكلة الإسكان التى تفاقمت وتحولت إلى سكن البسطاء فى العشوائيات والمقابر وحواف الجبال.
ولعلنا فى هذه المناسبة نذكر موافقة تاريخية كما جاء فى بعض المذكرات السياسية أن السيد على صبرى رئيس وزراء مصر الأسبق اقترح على الرئيس عبدالناصر تأميم هذه العقارات لصالح المستأجرين، ولكن الأخير رفض، فى حين نجح محافظ القاهرة وقتها السيد سعد زايد أن «يجرجر» البعض من أصحاب العقارات إلى قصر عابدين فى منتصف الستينيات لكى يردوا «خلوات رجل» فى حدود مائة وخمسين جنيهاً لمستأجرين فرحوا وقتها بهذه المبالغ المدفوعة، وهم لا يعلمون أن أبنائهم سوف يدفعون ثمن الامتناع عن الاستثمار للبناء بغرض التأجير باهظاً بسبب أزمة الإسكان التى تفاقمت بعد ذلك.. ثم جاء الزمن والتضخم وارتفاع الأسعار لكى تفعل ما لم يستطع صبرى تحقيقه وهو توريث هذه العقارات لمستأجريها، وحتى جاء قرار المحكمة الدستورية العادل لينصف من تبقى من هؤلاء البؤساء أو ورثتهم.