قهوة الظرفاء شرطها ضحكة ونكتة.. وروح حلوة، تملك الدعابة.. مسرح مفتوح تذكرته ضحكة، ومقاعده محجوزة لمن يملك قدرة فريدة على تحويل الحياة إلى طرفة، تختصر مواقفها فى جملة ساخرة، وتفتح نوافذ القلب عبر بسمة خفيفة..
مقهى «المضحكخانة» الذى احتل، فى عشرينات القرن الماضي، أمتارًا قليلة فى حى السيدة زينب بالقاهرة القديمة.. أحد أغرب المقاهى فى تاريخ مصر.. ملتقى لعشاق الضحك.. يجتمعون فيه لممارسة فن من أقدم الفنون الإنسانية، هو فن الفكاهة، حيث لا يُسمح لأحد بالجلوس بين رواده إلا إذا أطلق نكتة تثير القهقهات وتستدعى الابتسامات.
يعود تأسيس مقهى «المضحكخانة» إلى القرن التاسع عشر، حيث كان من المعتاد أن تزدهر المقاهى كمنتديات اجتماعية، يتجمع فيها الناس للحديث عن السياسة، والأدب، والأخبار اليومية، لكن هذا المقهى كان مختلفًا، إذ اشترط صاحبه ـ وهو رجل عُرف بخفة الظل وسرعة البديهة ـ أن يُلقى الداخل إليه نكتة تُضحك الجالسين، وإلا فليس له مكان فى هذا المجلس المميز.
هذا الشرط جعل المقهى مركزًا يجتذب الظرفاء وأصحاب الدعابة، وصار ملتقى للنُكتة المصرية فى أبهى صورها، حيث تنافس الرواد على إلقاء أكثر العبارات طرافة، وكان البقاء للأكثر قدرة على إثارة الضحك، فى مشهد يشبه إلى حد بعيد المسارح الكوميدية الحديثة، فتحول إلى رمز للتراث الفكاهى المصري، حتى أن الشيخ حسن الآلاتي، أحد أبرز رواد المقهي، قام بتوثيق العديد من الحكايات والطرائف التى دارت بين جدرانه فى كتاب حمل اسم «المضحكخانة»، والذى أصبح اليوم واحدًا من أهم المراجع التى تسجل النوادر والمواقف الساخرة التى ازدهرت فى المجتمع المصرى خلال القرن التاسع عشر.
يروى الشيخ حسن فى كتابه كيف كان الجلوس فى هذا المقهى بمثابة امتحان يومى للذكاء الاجتماعي، حيث كان الزوار يتأهبون بألطف ما لديهم من طرائف حتى يضمنوا لأنفسهم مكانًا فى المجلس، بل إن بعض الشخصيات البارزة فى عصره اعتادت التردد على المقهى للاستماع إلى النكات وتسجيلها، لما كان لها من دور فى تشكيل الوعى الجمعى وبث روح التهكم اللاذع تجاه الأوضاع الاجتماعية والسياسية فى ذلك الوقت.
كما ذكر الكاتب الراحل جمال الغيطانى فى كتابه «ملامح القاهرة فى 1000 عام»: أنه «فى نهاية شارع محمد على كان هناك مقهى يسمى «المضحكخانة»، وهو مقهى يشترط لدخوله أن تضع رسالة فى التنكيت و»القفش»، حتى إذا حازت قبولا عند صاحب المقهى ومجلس النادى يتم الموافقة على دخولك».
ظل المقهى سنواتٍ انعكاسًا لروح المصريين الساخرة، تلك الروح التى تستطيع أن تسخر من الأزمات، وتواجه الصعاب بابتسامة، وتحول الأوقات القاسية إلى لحظات من الفرح الخفيف، لكنه مثل كثير من الأماكن التى رحلت وبقى أثرها بعد أن شكلت وجدان المجتمع المصري، لم يصمد أمام عجلة التغيرات الاجتماعية، وربما حلّت أنماط جديدة من الترفيه محل هذا النوع التقليدى من التجمعات.. إلا أن «المضحكخانة» سجل التاريخ سيرته كجزء أصيل من التراث الفكاهى المصري.