حفل هذا الأسبوع بالعديد من الأحداث والتطورات المهمة، كان محورها الأساسى هو العدوان الإسرائيلى الهمجى على الشعب الفلسطينى فى غزة والضفة الغربية، ومن المهم التعليق على كل منها على حدة، وهذا ما أركز عليه فى مقال اليوم.
> أولاً – قرار محكمة العدل الدولية بشأن اتهام جنوب افريقيا إسرائيل بارتكاب جريمة إبادة جماعية فى غزة.
ما ان صدر هذا القرار يوم الجمعة السادس والعشرين من يناير، بعد أسبوعين فقط من بدء جلسات نظر الدعوى الجنوب افريقية، حتى لقى اصداء واسعة فى مختلف قارات العالم، وفى منطقتنا بالطبع على وجه الخصوص، وانقسمت التعليقات حوله ما بين الإشادة به، واعتباره نصراً تاريخياً للقضية الفلسطينية يضع إسرائيل – لأول مرة – فى قفص الاتهام وتحت سقف القانون الدولى والاتفاقات ذات الصلة، وهى التى كانت طوال ثلاثة أرباع القرن فوق كل القوانين.
القرار يمثل تحولاً ايجابياً بالفعل.. فمجرد قبول هيئة قضاة المحكمة لدعوى جنوب افريقيا، ورفضها طلب إسرائيل شطب الدعوي، يعنى ان هيئة المحكمة وجدت فى الدعوى ما يقنعها بجديتها واستحقاقها للنظر، وأن نظرها يدخل فى اختصاص المحكمة، وأن طلب جنوب افريقيا من المحكمة اصدار قرارات مؤقتة وعاجلة يتسم بالمشروعية ويتفق مع خطورة استمرار إسرائيل فى أية أعمال تشكل فى مجملها عناصر جريمة إبادة جماعية، خاصة مع اعتراف المحكمة بأن الشعب الفلسطينى يقع تحت مظلتها ويتمتع بولايتها.
المأخذ الذى أثاره كثيرون على قرار المحكمة، انه لم يتضمن أمراً لإسرائيل بوقف اطلاق النار.. وبالتالى فإن رفض إسرائيل له وعدم التزامها به، واستمرارها فى الحرب يصبح خارج ولاية هذا القرار.
والرد على ذلك أن قرار وقف اطلاق النار قرار سياسى لا يدخل فى نطاق صلاحيات المحكمة، بل يختص به مجلس الأمن بموجب ميثاق الأمم المتحدة، وان المحكمة وان تجنبت الإشارة إليه مباشرة، فإنها ألزمت إسرائيل بمجموعة من الإجراءات تجاه الفلسطينيين يحتاج الامتثال لها إلى وقف اطلاق النار عملياً.
أرى ان قرار المحكمة مهما وجه البعض له من انتقادات، أو رأوه غير كاف أو لا يستجيب لما كانوا يتوقعونه، قد فتح للقضية الفلسطينية «مساراً قانونياً» بالغ الأهمية لابد من التمسك به، واستثماره لصالح القضية لأقصى مدي، والبناء عليه.
ويكفى ان قبول المحكمة لدعوى تتهم إسرائيل بجريمة إبادة جماعية وان لم يمثل ادانة لها، الا انه سيجعلها واقعة تحت سيف هذا الاتهام طوال السنوات التى ستستغرقها المحكمة للفصل فى الدعوى واصدار حكم نهائى بات فيها.. والأصعب من ذلك، هو ان «رذاذ» هذا الاتهام سيطول كل من دعم إسرائيل وساعدها على ارتكاب هذه الجريمة.
وعندما أقول ان القرار يمثل تحولاً ايجابياً بالفعل، فإن شاهدى على ذلك انه باستثناء إسرائيل، لم تجرؤ دولة فى العالم ولا منظمة على إعلان رفضها له، أو عدم اعترافها به، بما فى ذلك الولايات المتحدة التى تتبنى الحرب الإسرائيلية فى غزة وتتحدى العالم باستخدام الفيتو ضد أى مشروع قرار فى مجلس الأمن يدعو إسرائيل إلى وقف اطلاق النار.. الجميع سارع إلى «النأى بنفسه» عن الرفض الإسرائيلى للقرار.
قبل صدور قرار المحكمة كان الموقف الأمريكى الرسمى المعلن هو ان «الاتهامات الواردة فى دعوى جنوب افريقيا ضد إسرائيل بالإبادة الجماعية.. لا أساس لها من الصحة، ولا يجوز للمحكمة ان تلتفت إليها».
وبعد صدور القرار كان الموقف الأمريكى الرسمى المعلن هو ان قرار المحكمة بمطالبة إسرائيل بإجراءات لحماية المدنيين وتوفير سبل الحياة لهم من مساعدات وغيره يتفق مع ما طالب به الرئيس بايدن رئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو!!
بريطانيا الدرع الثانى لإسرائيل بعد الولايات المتحدة لم تعترض على القرار بل دعت إسرائيل لمراعاة أهمية المطالب التى تضمنها.
الاتحاد الأوروبى دعا إسرائيل للالتزام بالقرار.
إذن قرار المحكمة تحول من مجرد «قيمة قانونية» إلى آلية تدفع فى اتجاه تحول فى المواقف السياسية الدولية لصالح القضية الفلسطينية تتوافق مع جعل وقف اطلاق النار أولوية مطلقة.
هذا يعنى دعماً قوياً لـ «المسار السياسي» للقضية.
> ويحضرنى بمناسبة الاشارة إلى المسار السياسى تصرح مهم للرئيس السيسى أدلى به فى السابع والعشرين من شهر نوفمبر الماضى خلال استقباله فى القاهرة لرئيسة دولة المجر الصديقة «كاتالين نوفاك» قال فيه ان استقرار وأمن المنطقة يرتبط بشكل أساسى بالاعتراف الدولى بالدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو عام سبعة وستين وعاصمتها القدس الشرقية».
ولقد علقت على هذا التصريح فى حينه فى هذا المكان، مشيداً بمضمونه وتوقيته، وقلت ان الاعتراف الدولى بالدولة الفلسطينية هو «الجسر الذى يمكن ان يعبر عليه حل الدولتين بعيداً عن التعامل التقليدى مع عملية السلام على مدى الثلاثة عقود الأخيرة والذى انتهى إلى لا شيء».
هذه الدعوة هى أهم ما يمكن إنجازه ليس على صعيد القضية الفلسطينية وحدها بل على صعيد إنهاء الصراع العربى – الاسرائيلى ولذلك لابد من حشد الجهود العربية والإسلامية والدولية لتحويلها إلى قاعدة للتحرك على المسار السياسى ودراسة كيفية الحصول على اعتراف دولى جماعى بالدولة الفلسطينية من خلال تقديم مشروع قرار بذلك للجمعية العامة للأمم المتحدة.
وقد كان من اللافت للنظر إعلان بريطانيا أمس الأول فقط انها تدرس الاعتراف بالدولة الفلسطينية وهو تحول مهم ويؤكد أن دعوة مصر السيسى بدأت تؤتى ثمارها.
> الحملة الإسرائيلية ضد وكالة غوث وتشغيل اللاجئين التابعة لمنظمة الأمم المتحدة والمعروفة باسم «الأونروا».. لماذا؟
لقد شعرت اسرائيل بأن قرار المحكمة نقل القضية إلى مسار آخر وان استمرارها فى عدوانها يمكن أن يؤدى إلى عزلتها الكاملة فى وقت لا تستطيع قيادتها وقف العدوان لأنه سيكون تسليما بهزيمتها فأرادت أن تصرف أنظار العالم عن التعلق بالقرار والالتزام به إلى قضية أخري.
وجهت اسرائيل اتهاماً لوكالة الأونروا بأن عددا من موظفيها شاركوا مع فى عملية «طوفان الأقصي» ضد اسرائيل فى السابع من أكتوبر الماضي.
لماذا لم يظهر هذا الاتهام إلا الآن بعد اسبوع واحد من صدور قرار المحكمة رغم مرور ما يقرب من أربعة شهور على عملية «طوفان الأقصي»؟! هل أجرت اسرائيل تحقيقا؟! هل قدمت أدلة دامغة؟!
المهم.. فى الوقت الذى سارعت الوكالة لإجراء تحقيق داخلى عاجل بين موظفيها وفصلت بمقتضاه ثمانية منهم استبقت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون القضية وأعلنت ومعها بريطانيا وايطاليا وكندا وفنلندا واستراليا وألمانيا وفرنسا وسويسرا واسكتلندا وهولندا والنمسا واليابان تعليق مساعداتها التى تقدمها للوكالة والتى بدورها تنقلها إلى الفلسطينيين فى غزة والضفة وفى الأردن ولبنان.
رد الفعل العاجل والمباشر يبدو وكأنه ناتج عن اتفاق مسبق.. فلم تتحرك دولة واحدة من هذه الدول حين دمرت الآليات العسكرية الإسرائيلية كليا أو جزئيا مائة وأربعين مقرا للوكالة فى جميع أنحاء غزة منذ السابع من أكتوبر حتى الآن ولا حين قتلت مائة واثنين وخمسين من موظفى الوكالة الذين يقدمون خدماتها الإنسانية ولا حين قتلت ثلاثمائة من النازحين الفلسطينيين داخل مقار الوكالة عندما احتموا بها هربا من القصف الاسرائيلي.
محاولة مكشوفة للإفلات من الحصار القانونى والسياسى لن تنجح.. فالعالم يتغير وإسرائيل داست على كل القوانين الدولية العامة والخاصة والانسانية ودمرت كل الجسور وتجاوزت كل الخطوط الحمراء بما يقلص كل يوم من حجم أى تعاطف معها.
> بقيت كلمة حول الاتفاق الذى يقال انه وشيك بين حماس واسرائيل على هدنة مطولة وتبادل للرهائن والأسري.
أى اتفاق هذه المرة يجب أن يتم بضمانات دولية مكتوبة ويتم توثيقه عبر مجلس الأمن وأن ينص على منع اسرائيل من إعادة اعتقال أى أسير أفرجت عنه ولا أى أسرى جدد تعوض بهم من أفرجت عنهم وأن تكون هناك عقوبة للطرف الذى يبدأ بانتهاك وقف اطلاق النار وأن تكون الهدنة مرحلة تؤدى إلى وقف دائم ونهائى لإطلاق النار وكل ذلك تحت مظلة الأمم المتحدة.
> واقتراح أخير: حين تصدر محكمة العدل الدولية بعد عمر طويل ويكون بإدانة اسرائيل.. فيجب أن نطلق على ذلك اليوم: اليوم العالمى للعدالة الانسانية ليتم الاحتفال به سنوياً فى قارات العالم الست.