.. يحكى أنّ رجلاً خرج يوماً ليعمل فى الحقل كما كان يفعل كل يوم، حمل فأسه، ودّع زوجته وأولاده.. لكنّه لم يعد الى بيته مع غروب الشمس كالمعتاد.. ولم يجده احد، و بعد عشرين عاماً سمعت زوجته طرقاتٍ الباب كانت امارات خبرتها أنّ الغائب قد عاد، فتحت فوجدته هرما يحمل معوله، دخل بيته، وألقى بجسده المتعب على أقرب مقعد.. بينما احاطت زوجته عنقه بذراعيها هامسة بصوت حنون: أين كنت يا حبيبي؟
.. تنهّد الرجل، بزفرة ودمعةٌ وقال: تذكرين يوم خرجت إلى الحقل كما كنت أفعل يوميا، فى ذلك اليوم رأيت رجلاً واقفاً فى الطريق وكأنّه يبحث عن شيء، أو ينتظر قدوم أحد، فلمّا رآنى اقترب منّي، هامسا بتماتم لم افهمها، فسألته عنها؟ فضحك عاليا وتطايرالشرّ من عينيه، وقال: انها تعويذة سحرٍ أسود ألقيتها فى أعماق روحك، ومن اليوم أنت عبدٌ لى ما بقيتَ حيّاً، وإن خالفتَ أوامرى تخطّفتك مردة الجانّ ومزّقت جسدك وألقت بروحك فى قاع بحر العذاب المظلم لتبقى فى عذابك ما بقى ملكهم على عرشه.
.. ثمّ سار بى الرجل إلى بلادٍ بعيدة، وأنا أخدمه وأحرسه ليلا ونهارا.. فلمّا وصلنا إلى بلده، ودخلنا بيته شبيه القبر، رأيت رجالاً كثيراً مثلى يخدمونه، و فى رقابهم قلادةً بها مفتاح، فإذا جاء الليل دخل كلٌّ منهم سجنه وأغلق القفل بالمفتاح ثمّ نام، فصرت أفعل مثلما يفعلون، فإذا ناموا نظرت فى المفتاح لأتذكّرباكيا وجهك الجميل، وأنّه ليس بينى وبينك إلاّ أن أفتح قفلى بمفتاحى لأرحل إليك.. ورأيت من ظلم ذلك الرجل ما لم يخطر على بالي، لا يعرف الرحمة، ولا يكترث لعذاب البشر، وكم سمعت من استعبدهم يبكون كالأطفال، ويرجونه رفع سحره، فيقسم بالله أنّه لا يعرف تعويذة الخلاص، وجازما بألا نجاة لأحدهم بروحه إلاّ إذا مات وهو يخدمه ويكون عنه راض.
.. إلى ان مرض وشارف على الموت و كنت واقفاً بجانب سريره، فقلت له: يا سيّدي، أنت الآن تموت، ولا نعلم كيف يكون الخلاص من السحر الذى ابتلينا به، فضحك ساخراً وقال: يا أيّها الأحمق، لا أعرف شيئاً من السحر، وما التمائم التى همستها اليك إلاّ كذبةٌ ابتدعتها، لكنّ نفسك الضعيفة جعلتك عبداً لي، وخوفك من الهلاك جعل روحك سجينةً فى زنزانةٍ أنت تغلقها بيديك، وقد أعطاك الله عقلاً كالمفتاح الذى وضعتّه فى عنقك، ولولا أنّك رضيت لنفسك الذلّ والهوان لفتحت باب السجن الذى كنت تعذّب نفسك به، وكنت أسمع صوت بكائك وأصحابك ليلا فأعجب من ضعف عقولكم وقلّة حيلتكم..
.. أسرعت إلى زنزانتى فالتقطتّ فأسى وعدتّ إلى الرجل لأقتله فوجدتّه ميتا، فأخبرت الرجال ما جرى فهرعوا يمثلون بجسده تمزيقا وحرقا، وجئتكِ راكضاً، أتساءل، أتنتظريننى أم نسيتني؟
قالت: روحى رافقتك فى سجنك، وفى ليلى أنظر القمر فيخبرنى أنّك تنظر إليه، واشعر بقيودك، فأرجوك أن تفتح القفل بالمفتاح، ألا أن صوت نحيبك ومن حولك حجب عنك الرجاء.
هذا هو الحزن، سجنٌ نصنعه بأيدينا، ومفتاحه الإيمان بالله… ولو توقّفنا عن الشكوى لفرّج الله لنا الضيق، وساق الاسباب لنجاة الغريق، وأبدل الظلمة بالنّور ووهب الرضا والسرور
الخوف او الحزن او الطمع أو الحسد أو الكراهية أو اليأس.. كلها سجون تحول دون الاستمتاع بالحياة.. بيدك ان تفتح القفل وتحرر نفسك.