منذ ما يزيد على عام ونصف العام، يشهد قطاع غزة حرباً مفتوحة لا تتوقف، وسط دمار هائل وفقدان يومى للأرواح، دون أى بوادر حقيقية لانتهاء المعاناة، ورغم أن آله الحرب الإسرائيلية تعمل بلا هوادة منذ 91 شهراً، فإن العالم لم يتحرك فعلياً إلا مؤخراً، عبر بعض المواقف الغربية التى تغيرت فى لهجتها، لكنها لم تتجاوز دائرة الأقوال.
خلال الأيام الماضية، بدأت بعض العواصم الغربية، وعلى رأسها لندن وباريس وبروكسل، فى استخدام عبارات أكثر جرأة فى انتقادها لما يجرى فى غزة، واصفة الأفعال الإسرائيلية بأنها «غير مبررة أخلاقياً» و»مفرطة تماماً» ورغم أهمية هذا التغير فى الخطاب، إلا أنه الواقع على الأرض لا يزال كما هو: القصف مستمر، والضحايا يتزايدون، والكارثة الإنسانية تتسع.
يكشف هذا التناقض الصارخ بين التصريحات والسياسات عن عجز واضح فى أدوات المحاسبة الدولية، ويطرح تساؤلاً مشروعاً: ما جدوى الإدانة إذا لم تتبعها إجراءات فعلية؟
منذ بداية الحرب، أظهرت المنظمات الدولية عجزاً فى تحويل تقاريرها ومواقفها إلى أفعال حقيقية.
إسرائيل تتصرف كما لو كانت فوق القانون، محاطة بدرع من الحصانة السياسية والدبلوماسية.
اللافت أن إسرائيل لم تكتف بتجاهل الانتقادات، بل تستمد منها مزيداً من التبرير لسولكها، مدعية أنها محاصرة ومظلومة، وأن هذه الإدانات تؤكد ضرورة مواصلة «الدفاع عن النفس» وقد ذهب رئيس وزرائها حد اتهام دول كبرى مثل بريطانيا وفرنسا وكندا بأنها «تدعم حماس» لمجرد مطالبتها بوقف قتل وتجويع المدنيين.
لا يمكن إنكار أن القضية الفلسطينية، التى كانت حتى وقت قريب هامشية فى النقاشات الغربية، أصبحت اليوم فى صميم الجدل السياسى والأخلاقى داخل العواصم الكبري، ومع ذلك، فإن هذا التحول فى الرأى العام لم يكن كافياً لإنقاذ أى حياة فلسطينية ما دامت الدول المؤثرة لم تستخدم أدواتها الفعلية للضغط.
فى ظل هذه المعادلة المعقدة، هناك فرصة حقيقية وإن جاءت متأخرة لإعادة تصويب البوصلة الأخلاقية فالعالم اليوم يشهد، بالصوت والصورة، ما يشبه الإبادة الجماعية أطفال جياع، أحياء مدمرة، ومستشفيات تفتقد إلى أدنى مقومات الحياة. ليست هذه حملة عسكرية تقليدية، بل نمط واضح من العقاب الجماعى يرقى إلى جرائم ضد الإنسانية.
إذا أراد المجتمع الدولى أن يتعامل مع هذه اللحظة بجدية، فعليه أولاً أن يرجع فرضياته القديمة: أن إسرائيل شريك مستقر، أو أنها تتشارك مع الغرب فى «القيم الحضارية» الواقع أثبت أن إسرائيل تمضى فى طريق مناقض لتلك القيم، غير عابئة بقوانين أو اتفاقات.
لذلك فإن المطلوب الآن ليس فقط وقف تصدير الأسلحة، بل فرض عقوبات اقتصادية واضحة، ووقف التعاون السياسى مع الشخصيات الداعمة لسياسة الاستيطان والتهجير، الاتحاد الأوروبي، الذى يمثل ثلث تجارة إسرائيل العالمية، يستطيع إذا توفرت الإرادة السياسية أن يحدث فرقاً حقيقياً
كذلك يجب احترام قرارات المحكمة الجنائية الدولية بحق المسئولين الإسرائيليين المتورطين فى الانتهاكات.
قد يبدو اتخاذ خطوات حاسمة الآن وكأنه جاء متأخراً، لكنه يظل أفضل من استمرار الصمت فالعالم الذى كنا نخشى دخوله إذا اختلفنا مع إسرائيل، قد دخلناه بالفعل وكل تأجيل لاتخاذ موقف أخلاقى وسياسى واضح، يسرع من انهيار النظام الدولي، ويزيد من كلفة إعادة ترميمه لاحقا.
الفلسطينيون فى غزة والضف يدفعون الثمن الأعلي، ولكن الضمير العالمى بأكمله يخرج مجروحاً من هذا الاختبار وإذا لم تتحول الكلمات إلى أفعال، فإن العار سيلاحق الجميع ليس لأنهم اتخذوا موقفاً خاطئاً، بل لأنهم لم يتخذوا أى موقف على الإطلاق.