رحم الله حجاج مصر الذين قضوا نحبهم خلال سعيهم لأداء الفريضة فى موسم الحج المنقضى بعد أن ابتغوا إليها سبلاً شتى خارج السياق الرسمى لأنظمة الحج وضوابطه المقررة فى البلدين: بلد السفر أو المغادرة وهى مصر وبلد الوصول وهى المملكة العربية السعودية.
وفى أداء الفرائض والعبادات لا محل لعبارة «الغاية تبرر الوسيلة» بل لابد أن تكون الوسيلة جزءا لا يتجزأ من الغاية يخضع لكل ما تخضع له من أحكام وتعلى القاعدة الشرعية التى تقول ان دفع الضرر مقدم على جلب المنفعة.
لكننا فى حالتنا هذه لا نملك إصدار أحكام على هؤلاء الضحايا إلا أن نحتسب أجرهم على الله فهو الأعلم بهم وأن نعزى أنفسنا فى فقدهم وندعو لذويهم بجميل الصبر والسلوان.
الحدث على المستوى الوطنى جلل وعلى المستوى القومى يقع فى قلب العلاقات المصرية – السعودية الوثيقة والأزلية خاصة فيما يتعلق بتنظيم عملية الحج، بل طال الحدث صورتنا فى العالم الإسلامى كله بعد أن أثبتت البيانات والأرقام الرسمية الصادرة من سلطة الحج السعودية ان ضحايا الحجاج المصريين جميعا من خارج بعثة الحج المصرية الرسمية وانهم يمثلون النسبة الأكبر من إجمالى جميع وفيات موسم الحج هذا العام من مختلف الجنسيات.
حسنا فعلت الدولة المصرية فور ورود أنباء الحدث، فقد بادر الرئيس بالتوجيه بتشكيل «خلية أزمة» فورا لبحث الحدث وتفاصيله وأبعاده ومحاسبة المسئولين عنه ووضع كل ما يلزم من الضوابط لضمان عدم تكراره كما تحرك البرلمان استجابة لطلبات احاطة قدمها عدد من النواب.. وبعد أول اجتماع لخلية الأزمة أعلنت سحب تراخيص 16 شركة سياحة وتحويل أصحابها للنيابة ودراسة تحميلهم بدفع تعويضات لأسر الحجاج المتوفين اضافة إلى إجراءات أخري.
المهم ان القضية أخذت مسارا محددا فصلت فيه بين التنظيم الرسمى لموسم الحج هذا العام فى مصر حيث ثبت سلامة جميع اجراءاته ونجاحه الكامل من الجانبين المصرى والسعودى سواء على مستوى حج القرعة أو السياحى أو الجمعيات.. وبين الحج غير الرسمى المتسبب فى الحدث والذى ألقيت مسئوليته على ما سمى بـ «الكيانات الوهمية» فى قطاع السياحة و»مافيا سماسرة تأشيرات الزيارة» والتى أوهمت الضحايا بأنه ما عليهم إلا أن يسافروا وسيجدون كل شيء «تمام» وهو ما لم تلتزم به هذه المافيا، بل تنكرت لهم فور وصولهم واكتشافهم انهم غير محميين بأى قوانين ولا مستحقين لأى خدمات.. إلى آخره.
هنا يقع صلب القضية.
فعبارة «الكيانات الوهمية» ومافيا السماسرة وغيرها تتردد منذ أمد بعيد وفى مجالات متعددة وليست قاصرة على عملية الحج فقط.
نسمع ونقرأ عن «كيانات وهمية» فى مجال التعليم تصدر شهادات وتوهم الشباب بمعادلات.
وعن كيانات وهمية أو غير مرخصة فى مجال الصحة لا يتم اكتشافها إلا مصادفة بعد سنوات من نشاطها حين يقع فيها خطأ طبى يودى بحياة مريض ويصل خبره إلى الاعلام أو إلى الشرطة والنيابة.
ونسمع عن كيانات وهمية ذات جذور عميقة فى مجتمعنا فى مجال تسفير العمالة المصرية للخارج وفى مجال الهجرة غير الشرعية.
بل حتى فى مجال مهنتنا نشكو من كيانات وهمية أو غير رسمية فى مجال الصحافة والاعلام تصدر بطاقات للمنضمين إليها تثبت فيها ان حاملها صحفى أو إعلامى على غير الحقيقة.
بل وتحولت شركات توظيف الأموال التى طالما حاربناها فى القرن الماضى إلى أفراد أصبحوا يشكلون ظاهرة أطلقنا عليها اسم «المستريح» أو «المستريحين» الذين يجمعون أموال الناس بزعم استثمارها لهم بعائد يفوق عوائد كل البنوك ثم يختفون بعد ذلك فى غمضة عين.
هنا لابد أن نتوقف لنضع النقط على الحروف.. كل النقط على كل الحروف لأن القضية الآن قضية دولة وقانون وتنظيم شامل لحركة مجتمع وحياة شعب.
فلا أظن ان «الكيانات الوهمية» هذه خافية على الدولة فليست بنت اليوم وما حدث فى مجال الحج هذا العام وتأشيراته تكرر فى مواسم سابقة وان لم يكن له ضحايا بهذا العدد أو إلى حد فقدان الأرواح وما حدث هذا العام كان نتيجة لهذا التكرار بعد أن اضطرت المملكة السعودية إلى تشديد الاجراءات حتى على مواطنيها أنفسهم الذين طبقت عليهم منع دخول مكة المكرمة خلال موسم الحج إلا بتصريح حج.
مصر دولة كبيرة، عريقة، متحضرة ومحترمة ويجب أن نحافظ عليها كذلك.. فى الداخل وفى الخارج.
مصر تتجه إلى عصر الجمهورية الجديدة بكل ما يجب أن تعنيه هذه العبارة أيضاً فى الداخل والخارج.
نحن لم ننتبه فى البداية إلى خطورة «الكيانات الوهمية» و»مافيات السماسرة» وغيرها من التشكيلات.
وحين انتبهنا لم نأخذ القضية بالشمول الواجب وتعاملنا معها بالقطعة حدثا بحدث وربما لم تكن القوانين تتضمن عقوبات كافية للردع والحسم.
الآن أصبحت هذه الكيانات والمافيات «ظاهرة عامة» تتجمع فيها كل عناصر الفساد والإساءة إلى الوطن والنظام والمجتمع.
ونحن الآن على مشارف استقبال حكومة جديدة.. وأظن ان قضية الكيانات الوهمية ومافيات السماسرة يجب أن تكون فى مقدمة الملفات التى يتسلمها كل وزير فى نطاق مسئوليات وزارته.
إن إلقاء مسئولية ما حدث فى موسم الحج على كيانات وهمية أو سماسرة صحيح، لكن ليس بصورة مطلقة، كما لا يعفى الأجهزة الرسمية من المسئولية.
وهذا ينطبق على كل المجالات الأخرى التى يوجد بها هذا الورم السرطانى الخبيث الذى يجب استئصاله قبل أن يزداد تمددا وانتشارا فى جسد الوطن والمجتمع.
لقد سقط من ضحايا هذه الكيانات مئات المواطنين والمواطنات.. وتحولت عمليات النصب الممنهجة من التسبب فى خسائر مادية لضحاياها إلى حصد أرواحهم كما حدث فى الحج وكما حدث فى الهجرة غير الشرعية وفى مجال الصحة والعبارات النيلية.. إلى آخره.
لم يعد الأمر بعد ذلك كله يحتمل التعامل مع هذا الوباء بالقطعة.. الأمر يحتاج اعلان حرب شاملة على كل من يسيء إلى صورة الوطن وحياة المواطنين وأن تنهض الحكومة بمشاركة البرلمان بغرفتيه بوضع بنية تشريعية متكاملة ورادعة.
خاصة لو ثبت – وهذا فى رأيى وارد – ان هناك أيدى خفية تعبث فى هذا المجال لأهداف لا تخفى علينا ونحن على مسافة أيام من 30 يونيو.