حج نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم حجة واحدة تخفيفا على أمّته وتيسيرا عليها، وعن سيدنا عبد الله بن عباس، رضى الله عنهما، قال: « خطَبَنا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ، فقال: يا أيُّها الناسُ، كُتِب عليكم الحَجُّ،فقام الأَقْرعُ بنُ حابِسٍ فقال: أفى كلِّ عامٍ يا رسولَ اللهِ؟ قال: لو قلتُها لوجَبتْ، ولو وجَبتْ لم تعمَلوا بها، –أو: لم تستطيعوا أنْ تَعمَلوا بها– الحَجُّ مرةً، فمَن زاد فهو تطوُّعٌ».
وسميت الحجة التى حجها نبينا «صلى الله عليه وسلم» حجة الوداع لأمور عديدة، فقد كانت حجته الأولى والأخيرة ولقى الله بعدها بأشهر قليلة ، فقد حج صلى الله عليه وسلم فى شهر ذى الحجة من السنة العاشرة من الهجرة ولقى صلى الله عليه وسلم ربه فى الثانى عشر من ربيع الأول من السنة الحادية عشرة من الهجرة أى بعد الحج بثلاثة أشهر تقريبا، وكانت خطبته الجامعة فى حجته هذه كأنها موعظة مودع، ففيها أكد صلى الله عليه وسلم على حرمة الدماء والأموال والأعراض، وأن دماء الناس جميعا وأموالهم حرام كحرمة يوم عرفة فى هذا الشهر الحرام –شهر ذى الحجة – فى هذا البلد الحرام «مكة المكرمة»، حيث قال عليه الصلاة والسلام: « أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت، فمن كانت عنده أمانة فليردها لمن ائتمنه عليها، ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب..
وإن كل ربا موضوع، ولكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، قضى الله أنه لا ربا، وإن أول ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب».
ومن المعانى العظيمة التى تضمنتها هذه الخطبة الجامعة: التحذير من التلاعب بالأشهر الحرم، فقد كانت العرب إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرمـوا مكانه شهرًا آخر، فيستحلون المحرم ويحرمــون صفرًا، فإن احتـاجوا – أيضا– أحلوه وحرموا ربيعًا الأول، وهكذا كانوا يعملون حتى استدار التحريم علـى السنة كلها، فلما كان العام الذى حج فيه النبى «صلى الله عليه وسلم» كان يوم عرفة فى زمانه الأصلي، وهو معنى قوله «صلى الله عليه وسلم»: إن الزَّمانَ قد استدار كهيئتِه يومَ خَلَق اللهُ السَّمواتِ والأرضَ، السَّنةُ اثنا عَشَرَ شَهرًا، منها أربعةٌ حُرُمٌ، ثلاثٌ متوالياتٌ: ذو القَعْدةِ، وذو الحِجَّةِ، والمحَرَّمُ، ورَجَبُ مُضَرَ الذى بين جُمادى وشَعبانَ.
ومن أهم المعانى التى تضمنتها هذه الخطبة الجامعة الوصية بالنساء، والتحذير من الفرقة، والتأكيد على مبدأ الأخوة والمساواة بين الخلق ، حيث بيّن «صلى الله عليه وسلم» أن الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربى على أعجمى ولا لأعجمى على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوي، فلا فضل للون أو جنس أو لغة، إنما هو مقياس واحد يُعرف به فضل الناس جميعا، وهو قوله تعالي: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُم».
وقد أكدت الخطبة ضرورة الالتزام بمنهج الله وإعطاء كل وارث حقه.
وكثيرا ما اختتم صلى عليه وسلم حديثه فيها بقوله : ألا هل بلغت، اللهم فاشهد، ألا فليبلغ الشاهد الغائب.
نعم يا رسول الله، لقد بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، فجزاك الله عنا خير ما جزى به نبيا عن أمّته.