نحن أمام حالة فنية وطنية استثنائية.. إنه إمام الزاهدين عاش لفنه فقط.. لا يبحث عن شهرة أو بروبجندا.. فجاءت إليه النجومية تحت قدميه وتقول له بالفم المليان: أنت من كبار أهل التمثيل العمالقة.. مع محمود المليجى وزكى رستم وأحمد زكي.. فى مدرسة محمود مرسى حكايات ودروس.. أهمها وأولها أنه باع بيته.. لكى يذهب إلى فرنسا فى واحد من أهم معاهدها السينمائية لكى يدرس ويتعلم وصناع السينما يعرفون جيداً معهد «اديك» فى باريس أنفق كل ما معه، لكنه أضاف إلى خبراته اللغة والعلم.. وذهب إلى لندن حيث عمل بمحطة BBC.. وبين فرنسا وإنجلترا عندما وجدهما تشاركان فى العدوان الثلاثى على مصر مع إسرائيل عام 1956.. ألقى إليهم دولاراتهم وفرنكاتهم وعاد إلى بلاده لكى يعمل بالإذاعة المصرية وفى أرشيفها الكثير من روائع أعماله.. قدم خلالها المسلسل والبرنامج والتحق بالتدريس بالمعهد العالى للسينما، وعلم طلابه أن الالتزام أساس النجاح فلا مجال للتهريج فى ميدان العمل الذى قبلت أن تلتحق به بصرف النظر عن مستواه أو قيمته المالية وعندما وجدت نفسى وجهاً لوجه أمامه فى أحد شوارع القاهرة وتحديداً بمنطقة المهندسين.. مشيت خلفه أراقبه.. بخطوات فيها التواضع وفيها الشموخ.. ملابسه بسيطة.. لكنها تكشف عن ذوقه ودخل إلى سوبر ماركت يشترى بعض الأشياء ولما خرج أسرعت نحوه وقدمت له نفسي.. وقلت له أنا فقط أريد أن أسلم عليك وأعرف زهدك فى الإعلام وتترك أعمالك تتحدث عنك فقد قاطع الحفلات بأشكالها.. لكنه قال لى يومها ما لا يمكن أن يمر مرور الكرام على أحد: أنا لست منعزلاً عن المجتمع.. أتابع كل شيء.. ولكنى أفضل استثمار وقتى فى قراءة حتى إذا جاء إلى العمل الذى أقتنع به نزلت بكل حماسة.. وكان وقتها يستعد لمسلسل تليفزيونى كتبه أسامة أنور عكاشة وجمعه مع يحيى الفخراني.. وأخرجه محمد النجار «1999».. ويحكى عن نصاب وزميله.. يؤكدان أن لعبة النصب لها اسلوبها ولم يحقق العمل ما حققه أبوالعلا البشري.. ربما لأن موضوعه مختلف عن كتابات أسامة وروائعه الأخرى وأذكر وقتها أن مرسى حصل على أعلى أجر.. وكذلك كان حاله فى مسلسل «العائلة» الذى كتبه وحيد حامد وتصدى فيه للإرهاب فى وقت مبكر.
هذا البشرى الطيب الودود المحب المحبوب هو نفسه عتريس المرعب فى الفيلم الاستثنائى «شيء من الخوف».. وبالمناسبة مرسى هو أصلاً المخرج الذى قدم الكثير بهذه الصفة حتى نجح نيازى مصطفى أن يقنعه بأن يقف أمام الكاميرا.. فى فيلم «أنا الهارب» وثم توالت أعماله ومنها «نصف دستة» تم اختيارها فى استفتاء أهم مائة فيلم فى تاريخ السينما المصرية: السمان والخريف، شيء من الخوف، زوجتى والكلب، أغنية على الممر، ليل وقضبان وأبناء الصمت.
وكما استدرجه نيازى مصطفى إلى السينما فأصبح من أوائل نجومها.. أقنعه محمد فاضل بالعمل فى الدراما التليفزيونية لأنها تدخل كل بيت وفيها رسالة اجتماعية وثقافية مهمة.. وكان مرسى قد أخرج للتليفزيون سهرة بعنوان «الحب الكبير» لعبت بطولتها ليلى طاهر مع يوسف شعبان ووقتها كانت الغلطة فى الدقيقة الأخيرة تقتضى إعادة التصوير من أول لقطة لأن المونتاج كان بدائياً.. ورغم نجاح السهرة لكن مرسى رفض العمل تليفزيونياً وكان نجاحه السينمائى يكفيه.. ولأنه ينتمى إلى الإسكندرية مثل المخرج محمد فاضل تعرف عليه مبكراً، وكان يخرج مسرحية بعنوان «مذكرات محتال» لطالب جامعى اسمه «وحيد سيف».. وفى عام 1977.. كان فاضل يجهز لمسلسل «رمضان والناس» وتعاقد فؤاد المهندس على البطولة ثم اعتذر لأنه يخاف من شغل الشاشة الصغيرة.. وهنا تذكر المخرج صديقه مرسى ونجح فى إقناعه بالعمل ووافق ثم تكررت الروائع «عصفور النار»، «أبوالعلا البشري»، «سكة رجوع».. وهناك عمل أخرجه فاضل ولأنه جاء بعد مرض مخرجه الأصلى يوسف مرزوق.
وهو «المحروسة 85» الذى كتبه سعد الدين وهبة لزوجته سميحة أيوب.. وفى المسلسل اجتمعت بزوجها السابق محمود مرسى لأول مرة بعد انفصالهما.. وهكذا كانت أخلاق الفرسان فى حياتهم الخاصة والعامة.
بعد لقائى الوحيد مع الأستاذ.. طلبت رقم تليفونه وكلمته لكى أعرض عليه اطلاق جائزة بعنوان «الالتزام» لا يحصل عليها إلا الفنان المحترم لعمله ولشخصه ووطنه.. وكان أولهم مرسى ولأنه لا يحضر الاحتفالات تم ارسال الجائزة إليه وتقبلها شاكراً.. وقد حصل عليها أسماء كبيرة بعضها تم تكريمه لأول مرة: أحمد خليل، شوقى شامخ، عبدالعزيز مخيون، رشوان توفيق إلى جانب محمد صبحى ويحيى الفخرانى وسميحة أيوب وسميرة عبدالعزيز وصلاح السعدنى وشكروا دار التحرير صاحبة الجائزة.
واطلاق محطة الدراما الإذاعية فرصة للاستمتاع بروائع الأعمال التى قدمها مرسى للبرنامج الثقافى لكبار كتاب العالم.. كما أخرج للمسرح «الخاطبة».
وفى سجل هذا الفنان الاستثنائى مسلسل «العملاق» الذى جسد فيه دور المفكر والكاتب الكبير عباس محمود العقاد.. والذى يعرفه أبناء الجيل الحالى بأنه اسم شهير فى مدينة نصر.. بالقرب من شارع السياسى المصرى مكرم عبيد وله عمل بديع سابق لعصره من تأليف محمد جلال عبدالقوى وهو «الرجل والحصان» عن علاقة رجل شرطة مع حصانه الميرى وكيف كان رد فعله عندما أحالوا الحصان إلى التقاعد فقرر الشاويش طلبة أن يشتريه رغم ضيق ذات اليد، وفى ذلك اشارات عديدة.. وأخرج المسلسل أحمد خضر وفى مدرسة مرسي.. قال لى عندما يكون فى جيبي.. عشرة جنيهات أعيش بها.. وأدبر نفسى على ذلك حتى لا أتنازل ولا أقبل عملاً أرفضه من داخلى وقبلته لأجرى الكبير.. وفى ذلك رشح جميل راتب بدلاً منه فى مسلسل «الراية البيضاء» وعلاقته مع المخرج محمد فاضل كان أساسها تقنعنى أو أقنعك وأحترم أسبابه.. وهو أيضاً الذى قدم ثلاثية نجيب محفوظ تليفزيونياً بقلم محسن زايد واخراج يوسف مرزوق ونجحت جداً لكنه اعترف بأن يحيى شاهين كان له السبق فى السينما هكذا بكل روح رياضية وثقة الكبار فى أنفسهم وصدقهم الذى أوصلهم إلى القمة.. وظلوا فى حضور داخل وجدان الجمهور رغم غيابهم.. وغيرهم حاضر أمامنا 24 ساعة ولكنه غائب.
ويكفى فى تاريخ مرسى أن عميد الأدب العربى طه حسين صعد إلى المسرح لكى يصافح الطالب الشاب السكندرى الذى لعب أمامه بطولة مسرحية لويس السادس عشر.. فكتب على نفسه من يومها وهو فى طور البداية ألا يفرط أو يتهاون فى عمل وافق على تقديمه.. وإلا فإن الاعتذار أكرم وأفضل.
