فيلم فاجأني حين تلقيت دعوة لمشاهدته في سينما زاوية، التي تعني اختيارات مختلفة لما تعرضه دور السينما الاخري في مدينتنا القاهرة، الاختلاف هنا قد يعني النوع.، اي فيلم تسجيلي أو وثائقي، وقد يعني الموضوع الذي لا يفكر فيه منتجوا السينما عادة، وأظن أنه كذلك فهو فيلم عن أديب مصري كبير، لكن الكثيرين لا يعرفونه لاسباب عديدة اولها بعده بإرادته واختفائه عن العالم وعزلته في بيته لمدة تزيد علي الثلاثين عاما داخل شقته بحي الورديان بالإسكندرية، انه الكاتب والروائي محمد حافظ رجب والمصنف باعتباره احد أهم كتاب القصة القصيرة في جيل الستينات، ومن هذه العزلة وبسببها سعت الكاتبة والمخرجة الشابة هند بكر الي كشف اسباب عزلة الأديب الكبير وبعده التام عن العالم، وهو ما أخذ وقتا وجهدا لسنوات ، وبعدها ظهور الفيلم الذي وثق حياته والذي أطلقت عليه المخرجة اسم (جولة ميم المملة ) كأول فيلم طويل لها ليعرض في عدة مهرجانات دولية بدأت بمهرجان أسوان الدولي لسينما المرأة ثم ثلاثة مهرجانات دولية خارج مصر قبل ان يعود الي بلده، مصر، ويبدأ عرضه العام من خلال سينما زاوية، ويفلح في جذب المشاهدين من خلال قصة بطله الأديب الذي سعي الي عالم الكتابة بكل إرادته في البدايات، قبل ان يسعي الي الهروب منها، ومن العالم كله في رحلة غربة وعزلة طويلة في النهايات .
هل من الممكن اقتحام عالم مغلق تماما؟
سؤال وفكرة أخذتا انتباه ( هند بكر) وهي تحاول البحث عن منفذ للوصول الي الكاتب الكبير الذي بدأ حياته في الإسكندرية بائعا للب السوداني علي احد أرصفة محطة الرمل بالإسكندرية وترك العمل بعد وفاة أبيه ليذهب الي القاهرة، ويجد عملا في المجلس الأعلي للثقافة، ولكنه يتركه ويترك المدينة لانه لم يجد الناس الذين يرتاح بينهم، وهكذا تنقل بين الإسكندرية والقاهرة كثيرا حتي قرر ان يعتزل الناس وحياتهم، و عزل نفسه عن العالم حوله، في الحي، وفي المدينة، وفي مصر كلها، وترك بعض عباراته تدور وتجد المعجبين بها مثل قوله (نحن جيل بلا أساتذة ) التي آمن بها الكثيرون، وغيرها، كانت ابنته هي الوحيدة المسموح لها برؤيته، وكانت هي مفتاح الوصول اليه بالنسبة للمخرجة والمصور، وإقناعه بالحديث بعد صمت طويل عاشه وحده بين الأكل والنوم والصلاة والصمت والتأمل، ولهذا جاءت كلماته صعبة، وشديدة الاختزال، وربما عبرت عيناه وملامح وجهه بأكثر من الكلام، و حتي القصص المهمة في حياته لم تكن لتتضح بالنسبة الينا إلا من خلال إضافات وأسئلة المخرجة التي أدارت الحوار معه في شقته، والتي حاولت كثيرا دفعه الي التعبير والإضافة عبر كلماته، لكن هذا كان صعبا إلا إذا. تذكر كلمات وجملا كانت قريبة منه في الماضي، باختصار، كان الحوار عبر الفيلم، وفي اماكن محدودة من الشقة عبارة عن مباراة بين طرفين، الاول يريد من الثاني البوح بكل ما عنده، والثاني لا يتذكر إلا القليل من احداث حياته، ولا يعبر إلا بالأقل من الكلمات، لكن العينان تشعان بريقا احيانا محاولا ايجاد معادل لها بالكلمات، فيلم مختلف حقا، وبطل يعبر بكل هيئته عن حالته الانسانية، وملامح شاحبة للمدينة، ولا ادري لماذا لم تجر المخرجة حوارا كان ضروريا مع الابنة، ومع آخرين اقتربوا منه في اوقات سابقة لاعتزاله العالم، ومع أدباء من زمنه، وأزمنة لا حقة، لكننا في النهاية امام فيلم مهم في كشفه ليس فقط عن حالة صعبة لاديب كبير، وانما في كشفه عن الكثير من القضايا التي تمس اهل الثقافة والعاملين بها، فلو لم تقدم المخرجة هذا الفيلم لما علمنا بهذه الحالة، وهذا الموقف الصعب لواحد من الأدباء الكبار والمهمومين الذين بعد عنهم الاعلام، والناس، وتوارت إبداعاتهم امام معاناتهم.