كان 30 يوليو الماضى عصيبًا فى إسرائيل، اقتحم جنود الاحتلال معسكرين اثنين للجيش، مع متظاهرين منهم سياسيون ونواب بالكنيست، اعتراضاً على المحاكمة العسكرية الجارية لتسعة من جنود الاحتياط بتهمة ما سمّاه الجيش «الاعتداء الجسيم» على فلسطينى فى سجن سدى تيمان سيء السُمعة، ما دفع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى أن أنكر عليهم اقتحامهم، فى بيان من سطر واحد تجاهل فيه ذكر المحاكمة.
أثبت تقرير الطبيب الإسرائيلى الذى عالج الضحية تعرضه لضرب مبرح حُمل به إلى المستشفى بعدما أفضى إلى تكسر ضلوعه وتمزق أمعائه وجرح حلقة دبره ورئتيه بجروح أليمة أثبتته عن الحركة.
جاءت المحاكمة من بعد تقرير استقصائى نشرته شبكة «سى إن إن» الأمريكية فى 11 مايو الماضى بشهادة ثلاثة إسرائيليين من سجن سدى تيمان ومعتقلين سابقين به بتعرض معتقليه لانتهاكات شديدة منها بتر أطرافهم بالأغلال وتعريضهم للصدمات الكهربائية وغمر وجوههم فى الماء وحرق بشرتهم بالسجائر وضربهم بالعصى والبنادق ولكمهم وإجهادهم بوضعيات متعبة طويلاً وتعصيب عيونهم وإجبارهم على إذلال أنفسهم وحرمانهم من النوم والطعام والشراب وقضاء الحاجة، حتى سمّاه نشطاء «جوانتانامو إسرائيل»، تشبيهًا له بمعتقل جوانتانامو الأمريكى فى كوبا.
أما خارج السجون، فما يزال قطاع غزة سجنًا كبيرًا حولته غارات إسرائيل حطامًا على رءوس عشرات الألوف ممن قتلتهم وجرحتهم وجوعتهم وشردتهم وطاردتهم، هذا لا شك انتهاك للقوانين الدولية للحرب، كما أثبتته منظمات عديدة مثل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، حتى الولايات المتحدة لم تجد مفرًا من الاعتراف بأن إسرائيل تخالف قانون حقوق الإنسان. ومع تراكم هذه الاتهامات، أطلقت إسرائيل عملية أخرى واسعة النطاق لإخفاء جرائم حملتها العسكرية المستمرة فى غزة ولرد تقارير الانتهاك التى تلاحقها.
ما يبدو رأفة بمحاكمة المتهمين بالاعتداء على الفلسطينى فى سجن سدى تيمان حقيقته إستراتيجية إٍسرائيل فى التنصل من جرائمها، فما عاناه المعتقل ليس «اعتداء جسيمًا» كما يهون من أمره جيش الاحتلال، بل جريمة «اغتصاب» وهو أشد الاعتداء على النفس. هكذا دأبت إسرائيل على تسمية انتهاكاتها للفلسطينيين بغير أسمائها التى تثبتها تقارير منظمات أممية وإعلامية كثيرة.
ولا يزال القادة والدبلوماسيون الإسرائيليون يقولون بألسنتهم ما ليس فى أخلاقهم التى يدعون أنها الأحسن فى العالم، وعمادهم فى ذلك زعم جيشهم قانونية هجماته وقدرته على التحقيق بنفسه فى الاتهامات التى توجه إليه بانتهاك القانون. هذا ما أعاده فريق دفاع إسرائيل على مسامع محكمة العدل الدولية فى إنكاره ارتكاب الاحتلال جريمة الإبادة الجماعية فى غزة.
لكن تقريرًا أصدرته منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية «يش دين» فى 9 يوليو الماضى يكشف أن الدور الرئيسى للقضاء العسكرى فى إسرائيل إقامة تحقيقات ومحاكمات داخلية هزلية من أجل تقديمها إلى الرأى الدولى كأنها العدل.
كشف تحقيق أجرته صحيفة «جارديان» البريطانية مع عدة جهات إعلامية أخرى ونشرته فى 28 مايو الماضى أن استخبارات إسرائيل دأبت على مراقبة أنشطة المحكمة الجنائية الدولية سرًا منذ 2015 للتجسس على القضايا التى تُرفع إلى مكتب المدعى العام، ومن ثم تحقق إسرائيل فى تلك القضايا بنفسها، ويكأنها بادرت بالتحقيق من تلقاء نفسها، ثم ترفض تفويض المحكمة الجنائية الدولية استنادًا إلى «مبدأ التكامل» من نظام روما الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية الذى ينص على أن القضايا التى تحقق فيها إحدى الدول بنفسها لا يجوز تحكيم المحكمة الجنائية الدولية فيها!
كما كشف التقرير عن ترهيب إسرائيل أعضاء المحكمة الجنائية الدولية لإبعادهم عن مواصلة عملهم فى التحقيق فى الاتهامات الموجهة إليها.. يوضح التقرير أن استخبارات إسرائيل كانت تتجسس على فاتو بنسودا المدعى العام السابق للمحكمة الدولية لكشف أى معلومات تشينها وأسرتها من أجل إخافتها. ويذكر التقرير أن رئيس الموساد السابق، يوسى كوهين، حاول بنفسه «تجنيد» بنسودا وخداعها وحملها على الخضوع لإسرائيل، وأن هذا أخاف بنسودا من أن يضروها.
فى 27 مايو الماضي، أعلنت المدعى العام العسكرى الإسرائيلي، يفعات تومر يروشالمي، أنها أمرت بإجراء تحقيقات جنائية فى أكثر من 70 حادثة يشتبه فى أنها جرائم حرب فى غزة، بعدما أحال الجيش مئات الحوادث إلى «إدارة تقييم الحقائق» التابعة لهيئة الأركان العامة بجيش الاحتلال، ودورها إجراء فحص سريع للانتهاكات المشتبه فيها للقانون الدولي، تمهيدًا لقرار المدعى العام العسكرى ما إذا كان سيُحقق فيها.
يظهر من ذلك التزام إسرائيل احترام قوانين الحرب. لكن تقصى تحقيقات الاحتلال فى فحص هجماته على غزة العشرة أعوام الماضية والتى تشمل عملية الجرف الصامد 2014، وقمع مسيرة العودة الكبرى 2018 – 2019، وعملية حارس الأسوار 2021 يستبعد نية إسرائيل إجراء أى تحقيق جديًا أو منع جرائم الحرب أو عقاب مرتكبيها، حسب التقرير.
فمنذ 2014، أُعلم جيش الاحتلال بمئات الحوادث التى «ربما» هى جرائم حرب، لكن معظم تلك القضايا أُنهيت بعد «مراجعة» إدارة تقييم الحقائق لها سنوات طويلات دون داعٍ، استمر بعضها 8 أعوام دون توجيه اتهمات لأى جنود أو قادة.. ومع سرية عمل هيئة التحقيق والمحاكمة العسكرية وأعضائها، فلا سبيل إلى معرفة تفاصيل التحقيق أو سبب إنهاء القضايا من دون تحقيق.
ومن نحو 600 حادثة وقعت فى غزة فى السنوات العشر الماضية وأثارت شكوكًا عن كونها انتهاكاً للقانون، لم يُعرف نتائجها إلا ثلاثة تحقيقات شملت توجيه اتهامات، على أن إخفاء حقائق الاتهام دأب جيش الاحتلال، لتجنيب المتهمين أى عقاب قاسٍ.
ومن أسباب ذلك تضارب المصالح المتجذر فى نظام إنفاذ القانون فى إسرائيل. فمنصبا النائب العام والمدعى العام العسكري، المكلفان بالتحقيق فى الانتهاكات المشتبه بها للقانون الدولى ومقاضاتها، هما أيضًا مستشاران قانونيان يعتمدان سياسات إسرائيل فى غزة، فهل يحاسب الجانى نفسه؟!
ولا يُتوقع قريبًا من قضاء الاحتلال إلا توجيه اتهامات لجنود من رتب حديثة فى تحقيقات صغيرة، صغيرة مقارنة بجرائمهم، مثل سرقة منازل الفلسطينيين أو إساءة معاملة المعتقلين الفلسطينيين. حتى تلك الاتهامات هى «لتبييض» وجه الاحتلال عند دول العالم، كما أنها ليست سوى حالات نادرة تثبت قاعدة أن الاحتلال الإسرائيلى لا يحاكم نفسه.