ظهر على الشاشة بأكثر من وجه وأكثر من صورة، وأكثر من زاوية.. فهل يمكن لنا من خلالها تجميع هذا «البازل» فى إعادة رسم الصورة الأقرب إلى شخص وروح جمال عبدالناصر؟ السؤال يمكن أن نبدأ الإجابة عنه.. من خلال موقف الفنان الاستثنائى أحمد زكى بطل فيلم «ناصر 56» فقد جرت عدة تجارب للمكياج والملابس.. وأبرزها «الأنف» التى هى من أبرز ملامح ناصر.. واستعانوا فى ذلك بأحد الخبراء الأجانب خصيصًا.. وبعد أن أتم عمله.. أدرك أحمد زكى بعبقريته أنه سيمثل الشخصية بشكل أقرب إلى الكاريكاتير وتحدى أن يمثلها من الداخل أى بروحها وليس بمظهرها فقط.. وقد كان..
صورة عبدالناصر لها خطوطها الواضحة التى تسهل مأمورية الرسام لكنها من حيث البعد الدرامى تحتاج إلى رؤية خاصة.. لهذا تعددت الأعمال بين مسلسل وفيلم.. وظل «ناصر 56» هو أنجحها لأسباب عديدة..
وقد جاءت الصورة إما وحدها داخل الإطار أى فى عمل يرصدها هي.. وإما كصورة جانبية فى مرحلة تواجد فيها ناصر بشكل أو آخر خلال أحداثها.
كما رأينا فى مسلسل أم كلثوم.. وأيضًا فى مسلسل عبدالحليم حافظ.. أو فى مسلسل الجماعة.. وكلها قدمته شابًا فى أوائل قيام الثورة.. بينما قدمه المخرج السورى أنور قوادرى بالألوان.. واختار حياته من أولها إلى آخرها.. وأسند البطولة إلى خالد الصاوى فى مغامرة فنية أدهشت الغالبية.. لأن خالد وقتها كان فى أول طريقه «1998» وربما أراد القوادرى أن يقدم هذا الوجه الطازج بدون أن يكون له من صور أخرى فى نفس المتفرج.. وذاكرته.. ولكن هذا الاختيار تم مقابلته جماهيريًا بفتور.. رغم حبهم لشخص جمال.. أما على المستوى النقدى فقد اعتبروا الصاوى قدم الشخصية بشكل سطحي.. ولم يتوغل فى أعماقها..
سورى آخر
وباستعراض السيرة كاملة.. قدم الكاتب يسرى الجندى مسلسله «ناصر» الذى أخرجه السورى باسل الخطيب.. وأسندت بطولته إلى الفنان مجدى كامل.. وكان قد سبق له تقديم نفس الشخصية فى مسلسل «العندليب» تأليف مدحت العدل من إخراج جمال عبدالحميد.. وقد أضاف العدل إلى كلمة «العندليب» عبارة «حكاية شعب» وهى نفسها رأيناها على أفيش فيلم القوادري.. مسبوقة بعبارة «حكاية بطل».. وقد اختار أن يقدمه باسم «جمال عبدالناصر» وكما نرى أراد أن يقدم كل شيء.. فإذا به يدوس على أشياء.. أو يتجاهلها.
العدل قدم ناصر من خلال عبدالحليم حافظ.. مثلما فعل محفوظ عبدالرحمن فى مسلسل أم كلثوم وقد كان ارتباطها بناصر وقد لعب دوره رياض الخولي..
وفى الجماعة الذى كتبه وحيد حامد فى جزئين ظهر جمال عبدالناصر فى الثانى من خلال الممثل الأردنى «ياسر المصري» ولفت الأنظار بقوة.. ولا غرابة فى ذلك فقد جاءت الشخصيات فى هذا العمل مرسومة بدقة.. من خلال كتابة هى أيضًا دقيقة وكاشفة وبليغة.. وقد أخرج الجزء الثانى شريف البندارى بينما أخرج الجزء الأول محمد ياسين.
صورة الرجل
> فى «ناصر 56» اختار محفوظ عبدالرحمن أن يقدم لنا الرئيس من خلال تأميم قناة السويس كيف درس الموقف.. كيف قرأ الحاضر وربطه بالمستقبل وكان حق الامتياز للشركة الأجنبية سوف ينتهى بعد سنوات قليلة.. لكنه لم ينتظر ويجرى وراء سراب أو أمل كاذب.. وفضل أن يضرب عدة عصافير بحجر واحد.. يقول للعالم إن مصر التى تخلصت من الاحتلال لا تقبل بعد ثورة يوليو 1952 أن تكون فى ظهرها شوكة استعمارية.. لأن القناة مصرية حفرها شعبها بالدم والعرق ولا يعقل أن يظل الخواجة يبتلع أموالها وخيرها لصالحه.. ثم إن فكرة حفر القناة نفسها.. كانت موجودة بأسماء ومسميات أخرى قبل أن يتقدم بها الفرنسى «ديلسبس» والتاريخ يشهد على ذلك فى عصور مختلفة.. ومنها أيام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
> «ناصر 56» الذى جسد فيه أحمد زكى شخصية ناصر يدور حول قصة التأميم لكنه يرسم لنا شخصية «جمال» من زوايا جديدة، وقد استشار ودرس وقرأ قبل أن يقدم على أى خطوة واختلفت الآراء بين من يؤيده ومن يعارضه ومن يفتح فمه مندهشًا من العواقب التى تأتى بها رياح هذا القرار وكل هذا كان فى الحسبان ولم يغفل عنه ناصر أو يتجاهله.. فهل كان يفعلها من باب استعراض القوة؟.. أو من باب الحرص على استقلال البلد بشكل كامل.. والقرار يعكس أيضًا ثقته فى أن الإدارة المصرية تستطيع أن تدير هذا المرفق العالمى إذا ما انسحب الخواجة وقد كان واثقًا أن شركة القناة سوف تنهار من بعده إداريًا وبحريًا.
الثورة والفن
فى مسلسلى «أم كلثوم» و»العندليب» تم رسم الشخصية من جانب اهتمام الثورة بالفن.. وارتباطها بأصوات بعينها آمنت بها وغنت لها من الناس.. ورصدت إنجازاتها أولاً بأول.. ووضعت المواطن فى الصورة تمامًا.. من خلال الأغنية والفيلم ولا يمكن بالطبع أن نغفل بعض الأعمال السينمائية التى تحدثت عن ثورة يوليو وعبدالناصر بشكل غير مباشر.. ترى أفعاله ونتائجها وأثره.. ولا تراه بشحمه ولحمه أمامك ستجد هذا فى أفلام من نوعية «بورسعيد» «رد قلبي» حتى فى أفلام إسماعيل ياسين عن أسلحة الجيش المصرى بأنواعها.. فيما بعد ثورة يوليو حيث تم تحديث الجيش وتمصيره وعبر حلقات مسلسل «ناصر» للكاتب يسرى الجندي.. سوف نرى صورة شاملة اختلط فيها ما هو إنسانى واجتماعى مع السياسى والعسكري.. لأن المساحة الزمنية للمسلسل تسمح بذلك.. وقد اعتمد فيها الجندى على مراجعة علمية من المؤرخ الكبير لبيب يونان رزق.. وتم اختيار مجدى كامل لكى يكرر دوره الذى سبق وقدمه فى العندليب.. أى تكرار لصورة سبق للمتفرج أن شاهدها فى لقطات مكثفة.. أخذت من الاهتمام بمسلسل الجندى وفى العندليب ناصر هو مجرد فرع فى العمل.. بينما فى مسلسل «ناصر» هو الأصل والفصل كما أن يسرى الجندى معروف بجديته فى الكتابة خاصة التاريخية وهى ملعبه المفضل وله فيها الباع الطويل والعلة الثانية فى رأيى أن الجمهور عرف الكثير بشكل مباشر عن عبدالناصر من خلال ما نشر عنه من كتب وما يراه ويسمعه من خطاباته.. وما قد يجده فى المتحف الذى تم افتتاحه فى مقر بيته بمنشية البكرى وألبومات الصور التى تم نشرها وما يتم من لقاءات تليفزيونية مع هدى وعبدالحكيم عبدالناصر فى مناسبات مختلفة.. وهو ما يؤدى إلى الاشباع من مصادر مباشرة قد تتفوق على المعلومة التى يتم تقديمها من خلال مشهد درامي.
والسبب الآخر أن أسلوب الكتابة جاء أقرب إلى الوثائقى منه إلى الدرامي.. والجندى فى هذا له ألف عذر.. فلا يمكن أن يلجأ إلى فبركة حوادث أو رسمها من خياله بطريقة تبعد عن الحقيقة وعصر ناصر لايزال طازجًا وحيًا فى قلوب وذاكرة ملايين عاشوا زمنه وهم على قيد الحياة.. وفيهم من كان طرفًا فى بعض الحوادث.. وهذا الالتزام الحرفى بالحقائق والمعلومات يحد من تحركات الكاتب الدرامية مهما كانت خبراته.. إلا إذا اخترع شخصيات موازية وهو ما قد يثير الشك فى العمل كله.. وإن كان محفوظ عبدالرحمن قد فعلها فى مسلسل «بوابة الحلواني» بحرفية عالية جدًا.. بحيث اندمجت الشخصيات المبتكرة من وحى خيال المؤلف.. مع الشخصيات الحقيقية الموجودة فى كتب التاريخ حول فترة حفر قناة السويس وهى مسألة تحتاج إلى مهارة عالية.. بحيث لا يشعر المتفرج بالفارق بين هذه وتلك من حيث اللغة والتصرف وهو ما يقتضى دراسة العصر بأكمله.. وكررها فى فيلم «ناصر 56» حيث ابتكر الشخصية التى لعبها حسن حسنى من خياله.
الصديقان
فكرة الهجوم على ناصر لصالح عبدالحكيم عامر.. هى التى أفسدت العمل الذى كتبه محمد ناير عن قصة لممدوح الليثي.. وتناولت صداقة جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر.. والمتفرج أذكى من أن تمر عليه هذه اللعبة الدرامية.. خاصة إذا كان يعرف الكثير عن الاثنين لأنها فترة تاريخية حديثة.. الكثير من أهلها أحياء وقد فرد شمس بدران فى أكثر من مقال.. لأنه شاهد على ما جري.. وراجع أصحاب العمل فى أكثر من موقف ثم إن مأزق اختيار الفنان السورى الكبير جمال سليمان أصاب الشخصية فى الصميم.. لأن امتلاكه لزمام اللهجة المصرية أفلت منه فى مواضع عديدة.. ويجوز أن هذا الاختيار جرى لإعطاء بعد عربى للعمل ومعروف غرام الشعب السورى بجمال حتى أنهم حملوا سيارته من فوق الأرض وهو يزور دمشق أيام الوحدة بين مصر وسوريا.. ومن حيث الشكل كان مقنعًا إلى حد كبير.. لكن طريقة كتابة المشاهد جاءت جافة ومتعجلة ومباشرة أحيانًا فى حوارها.. لأن الهدف الأساسى هو الهجوم على جمال والانحياز إلى حكيم ولو كلفهم ذلك تجاوز الحقائق حتى بدا الأمر أن المشير عبدالحكيم هو سيد الموقف فى الأمور الإيجابية.. كلمته نافذة.. لكن فى السلبية فليشر بها ناصر وحده..
ورغم المحاولات الفنية فى صناعة صورة تبدو ضبابية فى أغلب الأحيان لكى تعطى المتفرج الانطباع المناسب لأجواء العمل لكن ماذا تصنع الصورة مهما كانت حرفيتها.. مع كلمة مشكوك فى أمرها.. رغم وجود ممثلين على مستوى جيد هما جمال سليمان «ناصر» وباسم السمرا «حكيم».. ومع هذا لا صورة عبدالناصر اهتزت ولا صورة عبدالحكيم استقرت كما أراد لها صناع العمل.
وفى كل هذه المحاولات لرسم صورة قريبة من شخص وروح «ناصر».. ظل أحمد زكى هو الأقرب وقد يكون أبعدهم من حيث الشكل المطابق.. لكنه أفضلهم لأنه أدى بالروح أو من الداخل.. ويكفى نظرات عينيه وهى الملمح الأهم فى شخصية عبدالناصر.. وتعامل محمد فاضل معها بذكاء بالغ، وخبرة عالية أكثر من غيره.. وحتى نتأكد من ذلك علينا أن ننظر إلى صورة أنور السادات كما جسدها أحمد زكى أيضًا ببراعة بالغة تجعله خارج المنافسة أو المقارنة مع غيره.. ولعل الرسالة تكون قد وصلت إلى صناع الدراما.. إذا أردتم الاقتراب من صورة شخصية بحجم عبدالناصر وأردتم تغيير هذه الصورة.. عليكم أولاً أن تخلعوها من قلوب محبيه قبل عقولهم.. وعلى النقيض.. من ذلك نجح «زكي» أن يقرب السادات كثيرًا كثيرًا من قلوب ومشاعر من اختلفوا معه إلى أبعد مدى وتلك هى البراعة..
كادر ثابت
>> لكل صورة داخل وخارج.. ورهان الفنان على تغييرها أو رسمها من الخارج.. بطريقة غير مقنعة.. قد تأتى بالنتيجة العكسية تمامًا بأن تستقر الصورة فى الداخل أكثر!