واشنطن» دعَّمت المحكمة ضد بوتين.. وتهاجمها الآن دفاعاً عن نتنياهو!
جاء رد الرئيس الأمريكى جون بايدن على قرار المحكمة الجنائية الدولية بشأن طلبها إصدار أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع يوآف جالانت بسبب حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطينى ليعبر عن الازدواجية فى مواقفه وليضيف لسجل جرائمه ضد الإنسانية صفحة جديدة.. فهو فى موقف سابق أيد فيه كل ما قامت به المحكمة فى سعيها لفرض عقوبات ومحاكمة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين بعد شنه الحرب على أوكرانيا، والآن يرفض قرار ذات المحكمة لحماية حليفته إسرائيل دون أى اعتبار لوحشية الاحتلال فى حربه فى الأراضى المحتلة والمجازر التى يرتكبها على مدار الساعة دون توقف، ودون أدنى اعتبار لاغتيال الأطفال والنساء بدم بارد.. فموقف الولايات المتحدة أكد أن إسرائيل ستظل طفلها المدلل على حساب دم المدنيين العزل فى فلسطين.
الموقف الأمريكى تغير تماما تجاه قرارات المحكمة حينما تعلق الأمر بإسرائيل وبانتهاكاتها المستمرة المرتبطة بعدوانها على قطاع غزة.. وجاء مشروع قانون مجلس النواب الأمريكي، والذى يسمح بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية ولا سيما إذا حققت أو حاكمت أشخاصا محميين من واشنطن أو حلفائها، ليمثل خطوة أخيرة فى هذا المسعي.
ومرّ التشريع بتأييد أغلبية 247 صوتا مقابل معارضة 155، حيث صوّت لصالح مشروع القرار جميع النواب الجمهوريين و42 نائبا ديمقراطيا.. ويجب أن يحظى مشروع القانون بموافقة مجلس الشيوخ وتوقيع الرئيس الأمريكى جون بايدن حتى يصبح قانونا.
ويعد تصويت مجلس النواب على فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية مثالا آخر على المعايير الأمريكية المزدوجة، وعلى قيام المشرعين بكل ما فى وسعهم لحماية إسرائيل من أى مساءلة عن جرائم الحرب التى يرتكبها فى الأراضى الفلسطينية.
ورغم ذلك، فالولايات المتحدة وإسرائيل ليستا عضوتين بالمحكمة الجنائية الدولية، ولكن غضب المسئولين الأمريكان من توجه المحكمة، لأنها المرة الأولى التى تسعى فيها لمحاكمة حليف لواشنطن.. فكما سعت أمريكا بموقفها تجاه المحكمة حماية حليفتها فهى أيضا تحمى نفسها فهى تخشى من تعرض الجنود والساسة لديها للمحاكمة دون حماية دستورية أمريكية، ومن قضاة دوليين.
وهذه ليست المرة الأولى التى تنتفض فيها أمريكا مناهضة لقرارات المحكمة الجائية الدولية التى لا تتوافق مع مصالحها. فقد وصلت المعارضة إلى ذروتها خلال فترة رئاسة الرئيس السابق دونالد ترامب، حيث تعهدت واشنطن بفرض عقوبات على القضاة والمدعين العامين فى المحكمة إذا شرعوا بالتحقيق فيما قالت عنه المحكمة إن «أفرادا من الجيش الأمريكى ووكالة الاستخبارات المركزية ربما ارتكبوا جرائم حرب بتعذيب المعتقلين فى أفغانستان عام 2016».
وبالفعل، فرضت واشنطن عقوبات على أعضاء المحكمة، وحظرت الحسابات المصرفية لرئيسة المحكمة السابقة فاتو بنسودا، لكن العلاقات بدأت بالتحسن مع بدء عهد الرئيس جون بايدن، الذى تعهد باحترام قواعد القانون الدولي، حيث أسقطت واشنطن العقوبات.
وبالرغم من ذلك فإنه غير المرجح أن يصبح التشريع قانونا، حسبما ذكر خبراء قانونيون، وبرروا ذلك بأن إدارة بايدن أشارت إلى أنها لا تدعم فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، لكنها تدعم نوعا من الإجراءات غير المحددة.
ويخشى البيت الأبيض من أن تدفع العقوبات الأمريكية المحكمة الجنائية الدولية إلى ملاحقة إسرائيل بشكل أقوي، وأن يجبر مشروع القانون الولايات المتحدة على فرض عقوبات على الحلفاء المقربين الذين يمولون المحكمة وقادتهم والمشرعين والشركات الأمريكية التى تقدم خدمات للمحكمة، وفقاً لرأى الخبراء.
أساتذة القانون الدولى يعتبرون التحركات الأمريكية خاصة التشريع الصادر من الكونجرس سبة فى جبين المؤسسات التشريعية.
الدكتور محمد محمود مهران، المتخصص فى القانون الدولى العام، يعتبر إقرار مجلس النواب الأمريكى لمشروع قانون يسمح بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، تدخلاً سافرًا فى استقلالية القضاء الدولى وتهديدًا غير مقبول لجهود تحقيق العدالة.
قال إن هذه الخطوة الأمريكية تمثل انتهاكًا صارخًا لالتزامات الولايات المتحدة وفقًا لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولى العرفي، والتى تقضى بعدم التدخل فى الإجراءات القانونية للمحاكم الدولية وعدم عرقلة التحقيقات الجنائية الدولية.
أضاف أن نظام روما الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية، والذى صادقت عليه 123 دولة، يُجرّم فى مادته الـ70 أفعال التهديد أو الترهيب أو الانتقام من المحكمة أو مسئوليها أو الشهود بسبب أدائهم لمهامهم، ما يجعل أى محاولات لابتزاز المحكمة أو منع تعاون الدول معها، بمثابة جرائم تدخل ضمن اختصاص المحكمة ذاتها موضحا أن إصدار مذكرات توقيف دولية بحق قادة الاحتلال الإسرائيلي، يأتى فى إطار ممارسة المحكمة لولايتها القضائية فى الأراضى الفلسطينية المحتلة بعد انضمام دولة فلسطين للنظام الأساسي، ويعكس مدى خطورة الانتهاكات الجسيمة والممنهجة للقانون الدولى الإنسانى وقانون حقوق الإنسان التى ترتكبها قوات الاحتلال بحق الفلسطينيين.
شدد مهران على أن أى محاولات لعرقلة إجراءات المحكمة أو الضغط عليها للتراجع عن ملاحقة مجرمى الحرب الإسرائيليين، إنما تشكل تهديدًا خطيرًا لمبادئ العدالة الدولية وسيادة القانون، وتكريسًا لسياسة الكيل بمكيالين التى تطبق المعايير على الدول الضعيفة وتستثنى منها الأقوياء والمنتصرين، وأن إقدام الكونجرس على هذه الخطوة، يقوض مصداقية الولايات المتحدة ويفضح ازدواجية معاييرها، فهى من ناحية تدّعى الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية، ومن ناحية أخرى تحمى حلفاءها من المساءلة عن الجرائم الدولية البشعة، بما يغذى الشعور بالإحباط وانعدام الثقة بالعدالة الجنائية الدولية.
لفت أستاذ القانون الدولى إلى العديد من الاتفاقيات والقرارات الدولية، من بينها اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969، والتى تلزم الدول بتنفيذ المعاهدات بحسن نية وتحظر التذرع بالقانون الداخلى للتنصل من الالتزامات الدولية، فضلاً عن القرار 1593 الصادر عن مجلس الأمن عام 2005 والذى أكد أهمية تعاون الدول الكامل مع المحكمة الجنائية الدولية والامتناع عن أى أعمال تحول دون أدائها لمهامها.
حذر الدكتور مهران من أن نجاح مشروع القانون الأمريكى وتطبيقه عملياً، قد يشجع دولاً أخرى على اتخاذ نفس موقف واشنطن فى ابتزاز المحكمة الجنائية لحماية مسئوليها من الملاحقة، وهو ما ينذر بتآكل مبدأ سيادة القانون وسقوط هيبة القضاء الدولي، وصولاً لانهيار النظام القانونى الدولى برمته والعودة للفوضي، مطالبا المجتمع الدولى بـالتصدى بحزم لأى محاولات تستهدف شل حركة المحكمة وإضعاف قدرتها على محاسبة كبار المجرمين مهما علت مكانتهم، وأن تظل ولايتها القضائية بمنأى عن أى تدخلات أو ضغوط سياسية أو مصلحية ضيقة.
أضاف أن نهج واشنطن القائم على ازدواجية المعايير والانحياز الأعمى لإسرائيل حتى فى مواجهة أبشع الجرائم الموثقة بحق الفلسطينيين، وسعيها الحثيث لتقويض آليات المحاسبة الدولية، قد يقود لتصاعد ردود الفعل الغاضبة ضدها فى العالمين العربى والإسلامي، وصولاً لزعزعة استقرار المنطقة بأسرها، وهو ما يتعين على صناع القرار فى البيت الأبيض إعادة حساباتهم بشأنه.
شدد مهران على التأكيد بأن التمسك بسيادة القانون ومبادئ حقوق الإنسان فوق كل اعتبار وانه هو السبيل الوحيد لبناء عالم أكثر عدلاً وإنسانية.
قال د. أحمد أبوالوفا أستاذ القانون الدولى إن قرار الكونجرس الأمريكى بإقرار مشروع قانون بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية خبر مزعج وواضح انه يوجد اختلاف بين المجالس التشريعية للولايات المتحدة الأمريكية، الكونجرس ومجلس الشيوخ، وبين السلطة التنفيذية الحالية التى فى ظنى أنها تعارض إمكانية فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية فالمسألة لم تحسم حتى الآن.
أكد أن هذا القانون فى إطار العقل والمنطق سيرفضه مجلس الشيوخ ويرفض تمرير هذا القرار، فمشروع القانون يعد سبة فى تاريخ القوانين والدولية والشرعية، مشيراً إلى أن الرئيس الأمريكى قد لا يوقع على هذا القانون ومن ثم تنتهى المسألة.
أشار إلى أن ذلك أمر عجيب وغريب ان تفرض عقوبات على محكمة دولية، والأمر الثانى أن هذا القانون المقصود به يعارض فرض العقوبات على مسئولين إسرائيليين، وبالنظر لحجم الخسائر البشرية والتدميرية لكل قطاع غزة، سنجد فوراق بين السماء والأرض وبين ما أحدثته إسرائيل وما أحدثته حماس سنجد أنه لا توجد مقارنة من الأساس.