«احك لى حكاية يا بابا»، من منا لم يسمع هذه العبارة الآمرة فى دلال محبب إلى القلب، من منا لم يفتش فى دهاليز الذاكرة عن قصة تائهة وسط ذكريات الطفولة الضبابية لكى يلقيها على مسامع طفله المتحفز فى إصرار للتمرد على النوم ما لم يسمع حكاية تضمن له بقاء أحد والديه إلى جانبه أطول وقت ممكن. بالنسبة لى تحول الأمر إلى «ورطة» يومية. مطلوب منى مع حلول كل مساء أن أتسلح بحكاية جديدة وان أجيب على سؤال واحد من كلمة واحدة، يتكرر ألف مرة: ليه؟ والتى تعنى فى المصطلح الطفولى «لماذا»: سندريلا تعانى من قسوة زوجة الأب.. «ليه؟»، الساحرة الطيبة تصر على عودتها من الحفل قبل منتصف الليل، «ليه؟»، فردة حذائها تسقط منها «ليه»؟، واستسلم للنعاس قبل أن تهزنى «أمنيتى» الجميلة برقة سائلة فى نفاد صبر: وبعدين؟.
لا أذكر أن والدى رحمه الله ـ حكى لى أى حكاية عندما كنت طفلاً صغيراً، فقد كان جدى يقوم بهذه المهمة.. كنا نتحلق حوله كل مساء ليحكى لنا عن نوادر جحا وحكايات الملك العادل والملك الظالم وقصص الطيور والحيوانات التى اكتشفنا فيما بعد أنها مقتبسة عن كتاب كليلة ودمنة، وهو أمر غريب، لأن جدى لم يكن يجيد القراءة والكتابة، ولا كان والده أو جده يفعل.
«احك لى حكاية يا بابا»، كررتها طفلتى أمنية.. فتشت بسرعة فى ذاكرتى، عثرت على حكاية من حكايات جدى القديمة، حكاية «التعلب» المكار والغراب وقطعة الجبن، وما أن ذكرت لها عنوان الحكاية حتى رفضتها بإصرار. بحثت عن قصة أخرى، حكاية الأسد والفأر وشبكة الصياد، أيضا لم تعجبها. سألتها عن القصة التى تقترحها لكى احكيها لها، قالت على الفور: توم وجيرى. ولما مارست حقى فى الرفض، عرضت حلا وسطا: احك لى حكاية «جنينة الحيوانات»..!!.
اعترف بأن حكايات جدى أنقذتنى لفترة من الوقت، ولكن صغيرتى اكتشفت اللعبة عندما لاحظت الفجوة الواسعة بين ما احكيه لها وبين ما تشاهده فى التليفزيون وفى مواقع الألعاب الإلكترونية على الإنترنت، افتقدت توم وجيرى وسلاحف النينجا، افتقدت مرح مدن الملاهى العصرية فى حكايات قادمة من الزمن القديم، لم تعد تعجبها حكايات الغول الذى يخيف من لا يسمع كلام بابا وماما ولا يشرب الحليب وينام مبكراً. أصبح ما كنا ننبهر به فى الصغر لا يحرك أى مشاعر لدى أطفال اليوم، والمطلوب أن نواكب العصر، حتى فى الحكايات التى نحكيها لأطفالنا.
فى ليلة ليلاء حاولت أن أضفى ثوباً عصرياً على حكاية قديمة من حكايات جحا، جعلته يركب سفينة فضاء ويتوجه إلى المريخ ليمارس مقالبه على سكانه، فأوقعت نفسى فى مأزق لم أنج منه إلا مع آذن الفجر، فلا طفلتى نامت ولا سمحت لى بالنوم. أطلقت القصة خيالها فجلست إلى جوارى وأخذت تطرح الأسئلة: من هم سكان المريخ، ما هو شكلهم، لماذا لهم قرون استشعار على رءوسهم، لماذا لونهم أخضر، ولماذا لوننا ليس أخضر مثلهم، لماذا لا يأتون لزيارتنا، لماذا ركب جحا سفينة فضاء ولم يركب «باص» المدرسة؟. وعندما اقترب الصباح استيقظت على نداء طفلتى الصغيرة الجميلة: بابا.. أريد الذهاب الى المريخ.. احضر لى سفينة فضاء وقرون استشعار..!.