مثلما تكسرت الأوهام العسكرية الإسرائيلية على صخرة المقاومة الفلسطينية، التى عجلت بنهاية عقيدة الردع الزائف لدولة الاحتلال وما تسوقه عن نفسها من تفوق عسكرى نوعى بين دول الشرق الأوسط، باتت حكومة بنيامين نتنياهو أقرب إلى الانهيار،بسبب فشلها فى تحقيق أى انتصار على الصعيد العسكرى أو السياسى بعدما أثبتت الفصائل الفلسطينية أنها معادلة يصعب تجاوزها.
وجاءت استقالة بينى جانتس رئيس حزب معسكر الدولة من مجلس الوزراء الحربى الإسرائيلي، لتعزز حالة الانقسام الداخلى فى صفوف حكومة نتنياهو، التى فقدت برحيله التيار الوسطى المعتدل، لتسقط فى قبضة اليمين المتطرف.
وانضم جانتس– 65 عاما، إلى الحكومة بعد أيام من هجوم السابع من أكتوبر، ما أضفى أجواء من الوحدة فى مواجهة حركة حماس، ولكن بعد ثمانية أشهر من المناورات السياسية مع نتنياهو، انسحب جانتس من الحكومة، متهمًا رئيس الوزراء بسوء إدارة المجهود الحربى من أجل المصالح السياسية لشركائه اليمينيين المتطرفين.
وبالعودة بالتاريخ قليلاً إلى الوراء،كان من المقرر أن يصبح جانتس، وزير الدفاع السابق، رئيسًا للوزراء بموجب اتفاق تقاسم السلطة مع نتنياهو فى عام 2021، لكن الأخير تراجع عن ذلك ودعا إلى جولة جديدة من الانتخابات. ويعتقد بعض الخبراء أنه سيكون المرشح الأوفر حظًا لرئاسة الوزراء فى إسرائيل ما بعد الحرب، ورحيل نتنياهو.
وهذا الاعتقاد يستند إلى حقيقة أن الأحزاب فى ائتلاف نتنياهو الحالى لا تحظى بشعبية؛ فلم تحصل على أغلبية الأصوات فى الانتخابات الإسرائيلية التى جرت فى نوفمبر 2022، ولم تصل إلى السلطة إلا بفضل خلل فى النظام الانتخابى فى البلاد. وقبل 7 أكتوبر بفترة طويلة، وجدت استطلاعات الرأى أن حزب جانتس سيحصد أكبر عدد من الأصوات إذا أجريت انتخابات جديدة، مقارنة بحزب الليكود بزعامة نتنياهو. ومنذ 7 أكتوبر، قالت أغلبية كبيرة من الإسرائيليين إنها تريد انتخابات مبكرة، وخلصت معظم الاستطلاعات إلى أن جانتس يتقدم على نتنياهو باعتباره المرشح المفضل لرئاسة الوزراء فى تلك الانتخابات، ويقول 62٪ من الإسرائيليين إنهم لن يصوتوا لأى حزب يدعم نتنياهو لقيادة البلاد.
واقعياً لا تزال الحكومة تحتفظ بأغلبية 64 مقعدًا فى الكنيست المؤلف من 120 عضوًا، مما يضمن استقرارها لبعض الوقت، ولكن على الجانب الآخر سيؤدى رحيل جانتس إلى تعزيز شوكة الوزراء اليمينيين المتطرفين إيتامار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، واللذين هددا بإسقاط الحكومة إذا أوقف نتنياهو الحرب فى غزة.
إن ما يريده اليمين المتطرف ليس سراً ويتلخص فى القضاء على حماس من دون المزيد من صفقات المحتجزين؛ وطرد سكان غزة وإعادة توطين قطاع غزة؛ ووقف المساعدات الإنسانية؛ وتقويض السلطة الفلسطينية بالضفة الغربية؛ والقضاء على جماعة حزب الله.
لم يضيع إيتامار بن غفير، وزير الأمن القومى أى وقت، وانتهز فرصة رحيل جانتس للمطالبة بضمه هو وغيره من السياسيين اليمينيين المتطرفين إلى حكومة الحرب الإسرائيلية.
ولكن تلبية مطالبهم سيفضى بالتبعية إلى زيادة عزلة إسرائيل الدولية ولاسيما بعدما وُسمت بالدولة المنبوذة، بالإضافة إلى إضافة المزيد من الجرائم إلى سجل نتنياهو الإجرامي، فضلا عن إشعال المزيد من الاحتجاجات المناهضة للحكومة داخل إسرائيل لإجباره على الاستقالة.
واستناداً إلى التطورات السياسية السابقة، فإن نتنياهو ــ رئيس الوزراء الإسرائيلى الأطول بقاء فى السلطة، والذى خدم لأكثر من 17 عاماً كزعيم للبلاد ــ سوف يعطى الأولوية للمناورات التى من شأنها الحفاظ على سلطته وتجنب إجراء انتخابات مبكرة. وبعد يوم واحد من استقالة جانتس وانتقاله إلى صفوف المعارضة، صوّت الكنيست الإسرائيلى لصالح استمرارية قانون التجنيد المثير للجدل، والذى يعفى اليهود المتشددين «الحريديم» من الخدمة العسكرية فى الجيش الإسرائيلي، فى دلالة على القوة التى تحظى بها الأحزاب الدينية المتشددة داخل الحكومة فى الوقت الحالي.
ومع ذلك، فإن المستقبل السياسى لـ «نتنياهو» سيظل على المحك، ولا سيما بعدما أفقدته تهم الفساد الموجهة إليه وأزمة الإصلاحات القضائية فى العام الماضى الكثير من رصيده السياسي، فى ظل موجة الغضب العارمة بالشارع الإسرائيلي. ولم تؤد حرب غزة وأزمة المحتجزين إلا إلى زيادة السخط عليه، بل يحمله العديد من الإسرائيليين مسئولية الثغرات الأمنية التى سهلت المهمة على حماس، وبالتبعية فإن عدم إحراز تقدم على صعيد وقف الحرب واستعادة المحتجزين فى ظل سيطرة الجناح المتشدد على حكومة نتنياهو سيعجل بسقوطها، ولا سيما إذا نجح جانتس فى استمالة وزير الدفاع يوآف جالانت الذى عارض قانون التجنيد، وإقناعه بالاستقالة، وهو ما سيؤدى إلى دق المسمار الأخير فى نعش الحكومة لتنتهى بلا رجعة مسيرة نتنياهو السياسية.