القمة الثلاثية بالقاهرة
على عجل وسط ضغوط غير مسبوقة فى الداخل الإسرائيلي، وغليان فى المشهد الإقليمى زار رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو العاصمة الأمريكية واشنطن، للقاء الرئيس دونالد ترامب,محملا بجدول أعمال مزدح بالملفات وبالكثير من « العشم» والمحبة فى ساكن البيت الأبيض.
نتنياهو الذى لا يكف عن محاولات استثمار اللحظة ويطنطن كثيرا بجملة «سنغير الشرق الأوسط جديد»، علق آمالا كثيرة على ترامب؛ لكنه نسى أن الأخير يصعب التنبؤ بتصرفاته وأنه قد لا يمنح شيكًا على بياض، ولا يفتح بوابات التصعيد بلا حساب، حتى لأقرب الحلفاء.
بدا واضحا أن ترامب هذه المرة لديه اهتمامات وأولويات لا يشترط ان تتطابق مع جدول نتنياهو, ترامب مهتما أكثر بإعادة ضبط التوازن الإقليمي، ودفع جهود إنهاء الحرب فى قطاع غزة، إلى جانب إعادة تنظيم العلاقات مع الحلفاء، وتفادى الانزلاق نحو مواجهات غير محسوبة.
فى هذا اللقاء تحديدا كان الرئيس الأمريكى محددا فيما يخص توجهات إدارته تجاه ملفات الشرق الأوسط الحساسة، وتعمّد تقليص مساحة النقاش حول التعرفة الجمركية الجديدة التى طالت إسرائيل، والتى كانت السبب الرئيس فى زيارة نتنياهو لواشنطن, وأتصور أن هذا كان مقصودا من جانب ترامب ليتفادى فتح باب الاستثناءات مبكرًا، فى ظل رغبته فى حسم الملفات الاقتصادية عبر مفاوضات ثنائية منفصلة مع كل دولة.
فيما يخص الحرب فى غزة عكست تصريحات الرئيس ترامب قى لقائه مع نتنياهو هذه المرة ميلًا واضحًا نحو إنهاء الحرب والتوصل إلى صفقة تبادل للأسري، لاسيما أن إدارته تواجه ضغطاً داخلياً من الديمقراطيين التقدميين، والشارع الأمريكى الذى بات أكثر حساسية تجاه الصور القادمة من غزة؛ وهذا المسار بالطبع لا ينسجم مع رغبة نتنياهو، الذى يراهن على استمرار الحرب وتمديد الدعم الأمريكي، معولا على الجناح القوى فى واشنطن خصوصاً داخل الحزب الجمهورى الذى يرى أن دعم إسرائيل يجب أن يبقى دون شروط,ويرفض نتنياهو أى صيغة سياسية تقود إلى تسوية مع حماس، أو حتى العودة لمسار حل الدولتين, و يرى فى استمرار الحرب مصلحة سياسية واستراتيجية مزدوجة لتقويض القطاع ديموغرافيًا، وتعزيز مكانته الداخلية والحفاظ على تماسك ائتلافه الحكومي,وأى حديث عن تهدئة دائمة ما زال بعيداً عن حسابات تل أبيب.
هذه المرة أيضا لم يُظهر ترامب حماسة كبيرة للمضى قدمًا فى خطة التهجير التى سبق أن روّج لها, رغم تمسكه بالشق الأساسى من رؤيته, فاستخدم لغة أقل حدّة، وأرسل إشارات دالة مثل طرحه خيار»الهجرة الطوعية» كأحد البدائل, ويبدو أن نتنياهو التقط هذا التوجه الترامبى الجديد لانه يدرك جيدًا أن هامش المناورة فى حضرة ترامب يضيق بمن لا يلتزم بإيقاع البيت الأبيض وحدوده, فبدأ نتنياهو بخبث يتماهى معه بإضفاء طابع «إنساني» على الخطة، والظهور بمظهر المتفهم للضغوط الدولية.
تزامن مع زيارة نتنياهو لواشنطن انعقاد قمة ثلاثية بالقاهرة جمعت الرئيس عبد الفتاح السيسي، والعاهل الأردنى الملك عبدالله الثاني، والرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، وبدا أن هناك دفعا أوروبيا عربيا واضحا للبحث عن صيغة لإنهاء الحرب على غزة، وإحداث اختراق سياسى للأزمة وتأمين دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة،, وفى لفتة مقدرة من القادة الثلاثة تم إجراء مكالمة جماعية مع الرئيس الأمريكى لإطلاعه على مخرجات القمة, ولا يمكن عزل هذه المكالمة عن الإلغاء المفاجئ للمؤتمر الصحفى بين ترامب ونتنياهو، رغم ترتيباته المعلنة، حيث لم يكن مجرد تفصيل بروتوكولي, فكان نتنياهو ينتظر أن يُتوّج اللقاء بإعلان سياسى أورسالة مشتركة لأنه يدرك تمامًا أن صورته مع ترامب تحمل قيمة رمزية لناخبيه، لكن هذا لم يحدث.
كشفت زيارة نتنياهو الأخيرة لواشنطنحجم التعقيد فى العلاقة بين إسرائيل وحلفائها التقليديين، وحجم الفجوة بين طموحات نتنياهو وحدود السياسة الأمريكية، ففى حين سعى نتنياهو لفرض منطق التصعيد وتوسيع رقعة الحرب، جاء خطاب ترامب أكثر تحفظًا، متجهًا نحو التفاوض وساعيا إلى إنهاء الحروب ودفع كل الملفات نحو التسوية لا الانفجار.
أخيرا: أتوقع أن التغيرالذى بدا ملحوظا فى الموقف الأمريكى خلال الساعات القليلة الماضية سيحمل معه مستقبلا مسارات جديدة قد تحقق اختراقات فى المشهد وقد تكون صادمة وغير متوقعة لاسيما لنتنياهو وائتلافه المتطرف.