إذا كان هناك فى هذا العالم من يفكر، أو يسعى ـ مثل مجموعة دول البريكس مثلاً ـ فى إقامة نظام عالمى الجديد متعدد الأطراف، يحترم القانون الدولى وحقوق الشعوب وسيادة الدول، ويتعامل بعدالة وإنصاف مع القضايا والمشكلات الإقليمية والعالمية المزمنة، كبديل عن النظام العالمى الحالى، أحادى القيادة، فإن فترة قيادة الرئيس ترامب الحالية لأمريكا، تمثل فرصة نادرة قد لا تتكرر مع أى رئيس أمريكى قادم، للمضى قدماً فى هذا المسعى، وتجسيد حلم نظام عالمى جديد، حقيقة وواقعاً على الأرض.
وإذا كانت أمريكا قد شكلت ـ حتى نهاية فترة رئيسها السابق بايدن ـ العقبة الرئيسية فى طريق تشكيل نظام عالمى جديد، فإن ترامب يفعل الآن كل ما هو مطلوب لتغييب هذه العقبة، وتهيئة التربة العالمية للانطلاق نحو التغيير.
إن ما فعله الرئيس ترامب بأمريكا، سواء الداخل الأمريكى، أو علاقاتها الخارجية، فى ثلاثة أسابيع فقط من بداية ولايته، كفيل، إذا استمر فيه، بتجريد أمريكا من أهم مقومات وحدتها الداخلية وقيمها المعلنة ومؤسساتها الراسخة، ثم من أهم وأقرب حلفائها فى العالم، وهى الأسس التى أقامت عليها قيادتها المنفردة للنظام العالمى القائم، دون وجود تصور واضح لما يمكن أن يكون بديلاً لما يتم هدمه وتقويضه.
لست وحدى الذى يقول ذلك، بل بدأ العديد من الكتاب والسياسيين داخل أمريكا وفى أوروبا يحذرون من مغبة استمرار »الترامبية« وتأثيرها السلبى الكبير على صورة أمريكا الداخلية وعلى قيادتها للعالم.
كم قراراً وأمراً تنفيذياً أصدره الرئيس ترامب فى ثلاثة أسابيع فقط؟! وكم تصريحاً أطلقه؟! وكم رسالة إيجابية وأخرى سلبية حملتها هذه القرارات والأوامر والتصريحات؟! لا أحد قدم لنا حصراً بذلك، لكن المؤكد، من مجرد المتابعة اليومية، أنها أضعاف ما قام به أى رئيس أمريكى سابق فى مثل هذه الفترة الزمنية الضيقة.
الديمقراطية الأمريكية.. حقوق الإنسان.. المؤسسات القوية الراسخة للدولة، تتراجع فى أمريكا الآن إلى أدنى مستوياتها، بحيث لم يعد أحد فى العالم على استعداد لأن يتخذها نموذجاً يحتذى أو يصدق من يبشره بها.
ترامب حوَّل حكم أمريكا من المؤسسات إلى حكم »الشلة« المكونة من مجموعة ضيقة من الأصدقاء وأصحاب الولاء الشخصى له.. لم تعد هناك مؤسسة لم تتعرض لضرباته.. البنتاجون ـ المخابرات المركزية ـ مكتب التحقيقات الفيدرالى ـ وزارة العدل.. إلى آخره.
قراراته برفع نسب التعريفة الجمركية على واردات أمريكا من عشرات الدول الأوروبية وغير الأوروبية، ومطالبتها بزيادة إنفاقها الدفاعى كشرط لمساعدة أمريكا لها فى إطار حلف الأطلنطى.. تهديداته بالاستيلاء على كندا وتحويلها لولاية أمريكية، وإجبار دولة بنما على السماح لسفنها بالمرور فى قناتها مجاناً، وإعلان رغبة فى ضم جزيرة جرينلاند، كلها أصابت أقرب حلفائها فى الصميم.
إعلانه الانسحاب من أهم المنظمات والاتفاقيات العالمية، التى تقدم خدماتها لكل دول العالم، وفى مقدمتها منظمة الصحة العالمية، والمجلس الدولى لحقوق الإنسان ومنظمة اليونسكو، والاتفاقية العالمية للمناخ وغيرها، وأخيراً قاطع وزير خارجيته اجتماعاً وزارياً لمجموعة العشرين لأنه عقد فى جنوب أفريقيا بدعوى معاداتها لإسرائيل.
تعامله مع القضية الفلسطينية وكأنها بلا صاحب، ومع الأرض الفلسطينية وكأنها بلا شعب وتكرار إعلان عزمه الاستيلاء على غزة وتهجير أهلها وأهل الضفة إلى الأبد ومنعهم من العودة.. وتهديده بفتح أبواب الجحيم على الشعب الفلسطينى إذا لم تسلم حركة حماس كل المحتجزين لديها بحلول يوم السبت القادم ـ بعد غد، وكأنه خازن جهنم.
كل هذه رسائل سلبية أثارت عشرات الدول المعنية بها، وفى مقدمتها حلفاء أمريكا.
بل إن سبعاً وتسعين دولة من دول العالم الموقعة على اتفاقية إنشاء المحكمة الجنائىة الدولية والمصدقة عليها، وقعت بياناً ترفض فيه العقوبات التى قررها ترامب على أعضاء هذه المحكمة انتقاماً من قراراتها ضد قادة إسرائيل.
لقد وضع حلفاء أمريكا بقراراته ضدهم فى حالة استنفار واستعداد للرد، واستعدى العديد ممن ترتبط دولهم بعلاقات أقل من التحالف، مثل الشراكات الإستراتيجية والتجارية، دون أن يضيف فى هذه الأسابيع الثلاثة صديقاً واحداً لبلاده أو مؤيداً لسياساته ومنهاجه.
ولذلك، حين حاول مغازلة بعض دول وقادة العالم، لم يستطع إقناع أحد منهم، وجاءت ردودهم عليه سلبية.
قال إنه يعتز بصداقته لزعيم كوريا الشمالية ويحبه، فقالت كوريا الشمالية إنها لا تثق بأمريكا.
وقال إنه لن يضرب إيران وسيعمل على التفاوض معها، وجاء ردها مماثلاً للرد الكورى الشمالى.
وتحدث عن علاقته الطيبة بالرئيس الروسى بوتين، وأنه يعد للالتقاء به، فأصدر الكرملين نفياً لوجود أى ترتيبات للقاء حالياً.
هل هناك أفضل من هذه الفرصة لاستثمارها فى المضى على طريق نظام عالمى جديد؟!
إن عشرات من دول العالم التى أصابتها قرارات ترامب الطائشة، سواء فى سيادتها، أو فى اقتصادها هى اليوم فى حاجة إلى التكاتف، والاحتماء ببديل جماعى، وبالتالى أكثر استعداداً لاستنفار عناصر قوتها الذاتية لمواجهة الإعصار الترامبى.
وحتى لو تراجع ترامب عن بعض ما أصدره من قرارات أو هدد به من إجراءات فلن تقتنع هذه الدول بترامب، وستعتبره تراجعاً تكتيكياً مؤقتاً، فقد خلق مناخاً من الريبة لدى الجميع وفقد مصداقيته عند الشعوب قبل الحكومات، وعند الحلفاء قبل الأعداء.
ولأن مجموعة »البريكس« بالذات، والتى تنتمى مصر لعضويتها، هى المجموعة الوحيدة فى العالم التى تتبنى رسمياً فى وثائقها الدعوة إلى قيام نظام عالمى جديد متعدد الأطراف ومنصف، فإنها تستطيع الآن، وبأقل جهد، أن تضاعف عدد المنضمين إليها، وتضيف إلى قوتها ما يؤهلها لتحقيق هذا الحلم.
أما نحن، فى عالمنا العربى، فإن المواجهة الجماعية القوية والموحدة لمخططات التهجير والإجهاز على القضية الفلسطينية وقتل حل الدولتين، هى الموقف المطلوب من قمة السابع والعشرين من فبراير الحالى بالقاهرة، وباستخدام عناصر القوة العربية الجماعية الشاملة بدرجات مخططة ومتدرجة إذا استدعى الأمر ذلك، فى مواجهة »تحد وجودى حقيقى« لنا جميعاً وليس لدولة منفردة منا أو قضية تخص أحد شعوبنا.
لا يوجد حالياً عدو لأمريكا.. حاضرها ومستقبلها، أفضل من ترامب.