يعانى النظام العالمى القائم من تناقضات وازدواجية معايير، وسقوط ذريع للمبادئ والمواثيق والقوانين الدولية فى عالم تحكمه المصالح، وتقوده لغة القوة، والكيل بمكيالين.. فقد دأبت السياسات الأمريكية التغافل والتغاضى مع الأزمات والصراعات فى العالم بمعايير مزدوجة، وخلال أكثر من شهر استقبل البيت الأبيض رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو والرئيس الأوكرانى فلاديمير زيلينسكى وشتان الفارق فى الاستقبال الأمريكى لرئيس الوزراء الإسرائيلى والرئيس الأوكرانى، تناقض واختلاف حاد، والمشهدان يؤكدان ويجسدان ما يعانيه هذا العالم، رغم أننى على المستوى الشخصى لست مع نتنياهو وأعتبره مجرم حرب، ولا «زيلينسكى» الذى غامر بمستقبل بلاده لصالح تحقيق التحالف الأمريكى الأوروبى دون النظر إلى مصلحة أوكرانيا.
قبل الخوض فى تفاصيل ما دار فى اللقاءين، لابد أن أعرض جرائم نتنياهو فى حق الشعب الفلسطينى فقد قتل ما يقرب من 50 ألف فلسطينى معظمهم من الأطفال والنساء وأكثر من 100 ألف مصاب وآلاف المفقودين فى حرب إبادة وجرائم حرب أمام العالم، وعلى مرأى ومسمع ودعم أمريكى وعلى مدار 15 شهراً من العدوان على غزة قام بتدمير القطاع وتحويله إلى أطلال وركام، وحوله إلى مكان غير صالح للحياة فى إطار مخطط الشيطان الصهيونى لتهجير الفلسطينيين وفرض عليهم الحصار والتجويع والتشريد، وقضى على كافة الخدمات الإنسانية من محطات مياه وكهرباء ومستشفيات ومدارس، ولم تنقطع عنه كافة صنوف الدعم الأمريكى والغربى بالمال والأسلحة الفتاكة والدعم السياسى، والقانونى وقتل آلاف الشهداء فى لبنان واحتل أراضيها، واستغل ما حدث فى سوريا وتوغل وتوسع واحتل المزيد من الأراضى فى انتهاك صارخ لسيادة دولة وإسقاط اتفاقات مستقرة، هذا باختصار شديد مواصفات مجرم حقيقى هدد الشرق الأوسط والعالم ومازال بحرب إقليمية قد تتحول إلى حرب عالمية.
والغريب أن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب استقبله فى البيت الأبيض استقبال الفاتحين، يتغزل فى أمجاده وفتوحاته ويهاجم ويهدد المحاكم الدولية التى تجرأت بإصدار عقوبات ضده وإصدار قرارات بالقبض عليه كمجرم حرب، وفتح له ترسانة الأسلحة الأمريكية الفتاكة مثل أم القنابل التى كانت محظورة على إسرائيل، وأيضاً صواريخ جديدة وأفرج عن صفقة أسلحة تم تجميدها منذ سنوات حكم «بايدن» الأدهى والأمر أن ترامب يريد أن تكون إسرائيل ذات مساحة أكبر، بعد أن وصفها بالصغيرة ثم كشف عن هذا المعنى، عندما تبنى مخطط التهجير وطالب مصر والأردن باستقبال الفلسطينيين من الضفة وغزة إلى الأردن ومصر، تعامل ترامب برقة وغزل وحميمية مع نتنياهو، وربما ليس حباً فى رئيس الوزراء الإسرائيلى المتطرف ولكن بحكم لعبة المصالح، فهو الداعم المطلق لأوهام وأطماع إسرائيل الكبرى.
على الناحية الأخرى، فإن فلاديمير زيلينسكى الذى ارتمى فى أحضان الأمريكان والأوروبيين، خلال رئاسة جو بايدن ولهث وراء سراب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى والناتو، وبالتالى يقترب أعداء روسيا من حدودها، ويهددون أمنها وزعزعة استقرارها، وهو الأمر الذى لم تصمت أمامه موسكو بعد أن فشلت كل الجهود والمحاولات فى الوصول إلى حل إلا أن زيلينسكى المدفوع أمريكياً، والموعود بجنة الاتحاد الأوروبى وحماية الناتو، أصر على التصعيد، لذلك اقتحمت القوات الروسية، الحدود الأوكرانية، ودارت الحرب بين موسكو وكييف المدعومة بأموال وميزانيات طائلة من جو بايدن والدول الأوروبية، وأسلحة ونظم دفاع جوى ودبابات ألمانية، وطائرات إف-16 إلا أن كل ذلك لم يشفع مع قوة الدب الروسى، وتحولت أوكرانيا إلى دمار وأطلال، وقتلى بالآلاف وهى حرب بين جيشين نظاميين، الأول الروسى وهو القوة العسكرية الثانية فى العالم والأولى نووياً، والجيش الأوكرانى المدعوم أمريكياً وأوروبياً، بالمال والسلاح وهو ما أحدث خسائر فادحة للطرفين.
بمجرد وصول الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إلى البيت الأبيض انقلبت الطاولة ودارت الدائرة على الرئيس الأوكرانى زيلينسكى، لم يعد رقماً فى المعادلة الأمريكية جاء فى المخيلة الترامبية أنه دمر بلاده، وقتل شعبه واستنزف خزائن أمريكا طبقاً للتقدير 350 مليار دولار، وبالتالى جرت الاتصالات والمفاوضات الأمريكية الروسية لإيقاف هذه الحرب الدامية، دون حتى مجرد إخطار زيلينسكى أو دعوته لحضور المفاوضات وهو صاحب القضية أو الطرف الثانى مع بوتين، لكن ترامب الذى لا يحبه، لم يبد أى اهتمام، ومن هنا بدأت الوساطات الدولية لترتيب لقاء بين ترامب وزيلينسكى، وليته ما جرى، فقد حدثت أمور غير مسبوقة لم تعهدها الدبلوماسية والبروتوكولات الدولية، وصلات من السخرية والاستهزاء والتوبيخ من ترامب ونائبه للرئيس الأوكرانى، الذى أبدى قدراً من التطاول وعدم الإنصات أو الخضوع لأن ترامب لا يعتبره موجوداً ولا يعترف به، لكن النهاية كانت مؤلمة، طرد زيلينسكى وإلغاء المؤتمر الصحفى، بعدما خرجت الأمور عن السيطرة وانتابت ترامب حالة من العصبية خاصة أنه يريد الأموال التى دفعتها أمريكا فى عهد بايدن من زيلينسكى أو أن تمنح كييف أمريكا 50 ٪ من معادن أوكرانيا، ومازالت الأمور تشهد حالة من المد والجزر وربما نجد اعتذار زيلينسكى لترامب خاصة أن هناك مؤشرات لذلك.
لا فرق بين نتنياهو مجرم الحرب الذى شن حرب إبادة ضد الفلسطينيين فى حق 200 ألف فلسطينى ما بين شهيد وجريح ومفقود، وزيلينسكى الذى اتهمه ترامب بقتل مليون مواطن أوكرانى وأنه قد يشعل حرباً عالمية ثالثة، ولم تعد لديه أى أوراق.
المشهدان مختلفان تماماً ما بين حفاوة وغزل ترامب خلال استقباله نتنياهو مصاص الدماء ومجرم الحرب، والمتطرف الأكبر الذى دمر غزة بالكامل، ويسرق الأرض ويتوسع ويحتل على حساب سيادة الدول لكنه فى ذات الوقت يقابله ويستقبله بعاصفة من الترحيب والتدليل، والعطايا، وتأييد لمخطط التهجير ويفتح له الخزائن الأمريكية وترسانات السلاح ويوافقه على جميع أوهامه ومخططاته فى حين أن ما ارتكبه زيلينسكى قريب الشبه مما ارتكبه نتنياهو، مع الاختلاف أن رئيس الوزراء الإسرائيلى، قتل الفلسطينيين فى حين أن زيلينسكى قتل شعبه ودمر بلاده، وأدخل العالم فى نفق اقتصادى مظلم، فهناك فارق كبير فى التعامل ما بين التدليل والتوبيخ، ما بين إعلان الدعم والتأييد المطلق، وبين ممارسة الضغوط لاسترداد ودعم بايدن لأوكرانيا، الحقيقة هى لعبة المصالح، وازدواجية المعايير ومن الواضح أن واشنطن وموسكو قررتا اقتسام الغنائم بدلاً من الصراع، بدأت ملامح ذلك من سوريا مقابل أوكرانيا، والبقية تأتى لدرجة أن روسيا تلعب دور الوسيط بين واشنطن وطهران بطلب أمريكى.. حقاً إنه عالم المصالح والتناقضات.