دائما ما يستعير كتّاب العلاقات الدولية هذا المصطلح الأدبى «تدوير الزوايا» فى التعبير عن فكرة «الحل الوسط» الذى يكون غالبا هو الهدف الذى يسعى اليه المتفاوضون من جميع الأطراف، حيث لا توجد لدى هؤلاء أى استعدادات للدخول فى معادلات صفرية «أكون أو لا أكون»، وهذا يسحب المفاوضات إلى مناطق رمادية او ضبابية تكون اللغة السائدة فيها غير حاسمة او محسومة فكل مفردة يجب أن تحمل أكثر من معنى ويكون مسار الحوار متفرعاً إلى مسارات جانبية وفرعية وملتوية يمكن الهروب اليها أو منها بكل سهولة، فى أية مفاوضات تكون أعين الجميع على «الزوايا» ويكون الهدف كيف يمكن تحويل هذه الزوايا إلى دوائر او على الأقل منحنيات، يكون الهدف ازالة السنون المدببة والنتوءات البارزة والتى تعيق حرية الحركة على مسارات دائرية ومنحنيات بلا صدامات أو صدمات، لكن هناك من يرى أن الحلول الوسطى ليست دائما هى الحلول الناجعة أو المثالية ومن ثم ففكرة تدوير الزوايا لا يتبعها إلا هؤلاء الذى يختبئون خلف أصابعهم خوفا من مواجهة الحقيقة، يؤمن اصحاب هذه التوجهات الصدامية أن الكسر أولى من النحت والخطوط المستقيمة افضل من المنحنيات لذلك يبتعدون عن فكرة تدوير الزوايا تماما، وربما لجأ بعضهم إلى القيام بتزوية الدوائر ! اى تحويل الدوائر إلى زوايا، اصحاب هذه المدرسة لا يحبون الحلول الوسطى بل يبحثون عن الحلول الجذرية ولا يقبلون انصاف المواقف ولا يطيلون الوقوف فى المناطق الرمادية ولا يطيقون من يحدثهم بلغة ناعمة، ورغم ان هذين النموذجين متواجدان دائما فى عالم العلاقات الدولية حيث قضايا السياسة والاقتصاد ومفاوضات إنهاء الحروب وتسوية المنازعات، إلا أن الفكرة العامة موجودة فى حياتنا جميعا وهذه النماذج نراها يوميا ونتعامل معها ربما دون أن ندري، فالشخص الواضح الذى لا يقبل اللف ولا الدوران ولا المساومات تجده فى أى حوار أو مفاوضات يبحث عن الزوايا فقط ولا يقف كثيرا على منحنيات الدوائر، تجده يدخل فى الموضوع دون مقدمات ويبدأ بالمسائل الخلافية الأساسية ولا يهتم كثيرا بالفرعيات، هذا النموذج لا يستغرق وقتا طويلا فى اى حوار او مفاوضات فهو لا ينفق وقته إلا فى النقاط المفصلية الحرجة، وعلى العكس من ذلك نجد فى حياتنا من يستغرقون أوقاتهم فى الحديث عن المتفق عليه من القضايا فقط دون محاولة الاقتراب من التباينات والمسائل الخلافية، نجد هؤلاء مبتسمين ودودين لكنهم لا يحلون ولا يربطون فهم لا يعرفون الحسم ومن ثم لا يحبون الزوايا بل يبحثون عن المنحنيات ويلجأون إلى صناعتها كما يفعل خبراء العلاقات الدولية فى المفاوضات، ولى شخصيا تعبير يلخص سلوك هؤلاء حيث أقول لأحدهم «بلاش تاخد الملف على واسع.. ادخل فى الموضوع» وعندما يبدأ احدهم فى شرح المشروح وإيضاح الواضح أقاطعه بعبارة «وبِناء عليه» تلك العبارة التى استعرتها من الدكتور فتحى سرور رئيس مجلس الشعب الأسبق – رحمه الله – فحينما كان يرى احد النواب يسترسل فى كلمته امام المجلس متجاوزا الوقت او السياق العام فيبادره بصوته المميز وابتسامته الساحرة «وبناء عليه»، وربما نجد الشخص الواحد يؤمن بالنظريتين معا «نظرية تدوير الزوايا ونظرية تزوية الدوائر» فهو يكون حاسما قاطعا واضحا غاضبا تعلو وجهة تكشيرة مع البعض ويكون ودودا مبتسما يسمع ويناقش ويقبل الحلول الوسطى مع آخرين وذلك كله بحسب مكان ومكانه وموقف كل فصيل، وهذا فى تقديرى نوع من الواقعية، فطريقة تعاملك مع أبنائك تختلف عن طريقة تعاملك مع الآخرين، ونمط سلوكك مع مرؤسيك يختلف قطعا مع نمط سلوكك مع رؤسائك، لكن النموذج المثالى فى تقديرى والذى يجب ان نبحث عنه هو ذلك النموذج الذى يكون سلوكه وطريقة حياته واحدة مع الجميع، وأصحاب هذا النموذج سيعانون فى البدايات كثيرا لكنهم سيرتاحون فيما بعد حينما يعرف الآخرون بأنهم غير رماديين، فلنجرب جميعا هجرة المناطق الرمادية وهجران الشخصيات الرمادية فورا ودون إبطاء.