تعرف الدول بمواقفها وثباتها وقدرتها على مواجهة التحديات وحماية مصالحها ومقدراتها، ففي عالم مليء بالصراعات والأطماع من الطبيعي أن تتزايد الضغوط والتعدد محاولات فرض السيطرة والإرادة، كل يستخدم ما يمتلكه من قدرات التحقيق مصالحه دون النظر لتضرر الآخرين، فنحن نعيش الآن عصر القوة، ومن يملك عناصر القوة يستطيع أن يفرض رؤيته، بينما يظل الضعيف في وضع الخاضع المنفذ الذي لا يملك حتى قراره أو أن يرفض ما يملى عليه.
في هذا العصر نجد رئيس دولة يتحدث عن الدول الأخرى دون احترام لسيادتها أو حدودها، لأنه يرى نفسه القوة الأعظم ولا يعترف بحقوق الدول الأخرى طالما أنها ضعيفة وإنما يعترف فقط بقوته والتي تمنحه حق أن يفعل ما يريد، ونجد أيضا گیانًا محتلًا يتعامل بغطرسة ويضرب بالقوانين الدولية عرض الحائط لأنه يعلم أنها لم توضع لتنفذ على القوى وإنما تنفذ فقط على الضعيف.
في هذا العصر تجد لغة التهديد هي السائدة بين الدول، وأساليب الضغط هي المعتمدة في العلاقات الدولية، ومن الممكن أن يصل الضغط إلى أقصى الحدود بل قد يتعدى إلى ما يتجاوز كل القواعد الدبلوماسية، وأصبح عاديًا أن تسمع عن مصطلح «لمس أكتاف» الذي يستخدم في المصارعة الحرة كدليل على ما تصل إليه بعض الدول نتيجة الضغوط المفروضة عليها من قوى كبرى لتنفيذ ما تريدي، وهذا يتم بلا رحمة، لأن السياسة الدولية لا تعرف الرحمة ولا تعترف بالشرف وإنما تعترف فقط بالقوة وبالأقوى.
وعندما تتابع ما يحدث مع مصر طوال الفترة الماضية ستجد ترجمة حرفية لهذه الفكرة الضغط بكل السيل من أجل إجبارها على الرضوخ والقبول بما هو مطلوب منها وهو تمرير مخطط التهجير وفتح حدودها أمام الفلسطينيين تحقيقا للأهداف الإسرائيلية، وما نسمعه ونعلمه مما يحدث مع مصر هو قليل لأن الواقع أكثر صعوية، وتمارس فيه من الأساليب ضد الدولة المصرية ما يمكن وصفها بـ «القذرة»، من إغراءات خيالية لا ترفض، إلى تهديدات لابد أن تؤخذ بحذر، وشائعات تتطلب اليقظة، وتحريض يستوجب الانتباه، وإعادة تشغيل الطابور الخامس داخليًا، من مجموعات المستكتبين والمحرضين والمحيطين، بغرض المشاركة في حصار الدولة وإرباك المشهد داخليًا وتحريض المواطن ضد دولته بسيل من الأكاذيب التي تجعله في حالة عدم يقين وشك مستمر في الدولة ومؤسساتها وموافقها تنفيذا لمبدأ الإسقاط الداخلي، والذي يأتي في سياقه الأحاديث المتعمدة عن إمكانية سقوط الدولة وربما يصدر مثل هذا الكلام بحجة الحرص على الدولة والخوف عليها من مسيرها، لكن الحقيقة أنه كلام مقصود ومتعمد ويتم ترويجه لرسالة مشفرة للطابور الخامس ليتحرك بها تنفيذًا للأجندة المعتمدة من الممول.
خلال الفترة الماضية يتم استخدام كل هذه الأساليب وغيرها مع مصر للضغط عليها وإجبارها على تنفيذ المخطط، لكن تماسك الشعب وقوة القيادة وصلابة مؤسسات الدولة أثبتت أنها قادرة على التصدى والوقوف ضد هذا المخطط وربما ما لا يعلمه كثيرون أن الدولة تعرضت خلال الفترة الماضية لاختيارات قوة كثيرة كان الهدف منها قياس مدى قدرتها على الصمود وتحمل الضغوط ولكنها نجحت في الاختبار، وهو ما جعل لغة الخطاب الغربية والأمريكية تتغير وأساليب التعامل مع مصر تختلف لأنهم وجدوا ما يمكن اعتباره حائط صد عنيف وقادرًا على المواجهة، ولم يكن سهلا أن تفعل الدولة المصرية هذا وأن تفرض إرادتها وخطوطها الحمراء إلا لأنها تقف على أرض صلبة تجسدت قاعدتها في الشعب الواعي المدرك للخطر المتفهم لما يحيط بدولته من تحديات، ومعه المؤسسات الوطنية الحاضرة الممتلكة لكل عناصر القوة اللازمة للدفاع عن الأرض وسيادة وقرار الدولة، وقبل كل هؤلاء القيادة السياسية التي لا تعترف بالإملاءات ولا تسمح بفرض الأمر الواقع وتعرف جيدا قيمة وقوة دولتها، قيادة قارئة جيدًا للتاريخ وتمتلك جرأة القرار وصلابة الموقف، وقدرة على إدارة الأمور بحكمة وصير وحسم في الوقت نفسه، ولهذا لا تهتز التصريحات هدفها التشويش أو التشويه ولا تستجيب لضغوط تتعارض مع استقلالية القرار وسيادة الدولة.
هذه القوة المصرية وصلابة الموقف هو ما يزيد الأمور تعقيدا ويربك حسابات المخطط الدولي لمستقبل الشرق الأوسط لأنه كان بينى نظريته على سهولة التنفيذ، وسرعته، بينما أثبتت له مصر عكس ذلك وأكدت بموقفها أن الطريق لمخططهم ليس ممهدًا ولا مفروشًا بالورد.
ومن هنا تأتي الأساليب الجديدة في الضغط ومنها ترويج الأكاذيب من عينة أن مصر مستعدة لقبول نقل نصف مليون مقيم من غزة بشكل مؤقت في مدينة مخصصة في شمال سيناء كجزء من إعادة الأعمار وهو ما نفته مصر تماما وأكدت كذبه، ومن هذه الأساليب في الضغط أيضا التلويح بإيقاف المساعدات الأمريكية وكأنها مصدر الحياة لمصر، آخر هذه الأساليب ما تحدث به المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف الذي لم يأت للمنطقة مبعوثًا للسلام العادل، وإنما جاء مبعوثًا لتنفيذ المخطط وكان يظن مثل رئيسه أن المهمة سهلة، وما أن وصل إلى المنطقة حتى اصطدم بالعثرة الكبيرة وهي مصر.
يمكن أن تعرف مدى غضب وينكوف من الموقف المصرى الواضح الحاسم في حديثه الذي لم يراع إلى قواعد اللغة الدبلوماسية التي من المفترض أن يلتزم بها بل تجاوز ذلك بشكل ملفت وابتعد عن السياسة لمتحدث عن الاقتصاد ويلمح لما يمكن أن تصفه بالتهديد المغلف، بأن أمريكا يمكن أن تمارس ضغوطا أكثر لتخنق مصر اقتصاديًا والوصول إلى مرحلة «لمس الأكتاف» التي يتعامل بها ترامب مع العالم كله.
هذه اللغة المتجاوزة من مسئول أمريكي مفترض أنه يعلم حجم وتأثير الدولة التي يتحدث عنها، إنما تعبر عن غضب عارم من هذه الدولة لأنها ببساطة أفسدت مخططة ولم تمنحه ما يريد ولم تساعده لإنجاز مهمته لأنها دولة لا تأتمر ولا تسمح بلغة التهديد ولا تقبل بأن يتدخل أحد في قرارها.
ودليل هذا الغضب الويتكوفي حديثه الكاذب عن البطالة في مصر والتي تعترف كل المؤسسات الدولية بأنها هبطت لما يقارب 6 بالمائة بينما هو يتحدث عن 45 بالمائة، وبالطبع لن نسأل من أين جاء بهذا الرقم لأنه ليس له مصدر ولا أساس وإنما هي لغة التشكيك المكشوفة والتهديد غير المباشر واللعب على الإحباط الشعبي باستخدام أرقام ليست واقعية وإنما رسالتها المفهومة أنها يمكن أن تحدث لو تم تضييق الخناق الاقتصادي، ومن الطبيعي جدا عندما تصل البطالة إلى هذا الرقم سكون الدولة في حالة خطر.
بالتأكيد ويتكوف وهو يُطلق تخاريفه لا يتحدث بشكل شخصي وإنما يريد توجيه رسالة، وقد وصلت الرسالة وردها معروف لأن مصر لم ولن تغير ردها ولم ولن تبدل ثوابتها، فنحن على موقفنا الثابت الرافض لمخطط التهجير وتصفية القضية، ولن نفرط في أمننا القومي وأرضنا، ونؤكد أن السلام العادل لن يتحقق بما تريده واشنطن وتل أبيب، وإنما بالاعتراف بالحق التاريخي للشعب الفلسطيني وحل الدولتين.
هذا ليس فقط موقف القيادة السياسية الذي عبرت عنه منذ أول لحظة وأكدت عليه في كل المناسبات، وإنما هو موقف الشعب الذي يساند قيادته ويرفض تماما لغة القوة والضغوط التي تمارس لفرض مخطط تصفية القضية الفلسطينية، وأعتقد أن هذا الموقف الشعبي واضح تماما سواء لويتكوف أو البيت الأبيض، والشعب قبل القيادة جاهز لكل السيناريوهات لأنه لن يقبل أن تفرض على دولته إملاءات.