إدراك قصة الصين ضرورة فى التنمية الاقتصادية والحرية السياسية
تستحق رحلة بكين من ظلال الفقر إلى صدارة الازدهار العالمى دراسة أكثر تعمقًا كنموذج يُحتذى به للتحول الاقتصادى لما يحمل بين طياته من أهمية وإلهام كبيرين.
ففى أواخر سبعينيات القرن الماضى وتحت قيادة «دينغشياوبينغ»، شرعت البلاد فى مسار مختلف جذرياً عن ماضيها، حيث أقر مهندس الإصلاح الصينى تعديلات ثورية فتحت المجال أمام الاستثمار الأجنبى والمؤسسات الخاصة على مصراعيها ومهدت الطريق لفترة من النمو المتصاعد تحولت الصين على إثرها من مجتمع زراعى إلى حد كبير إلى عملاق صناعي.
فى الحقيقة فقد غذى هذا التحول إستراتيجية توسيع المدن بشكل كبير، حيث تحولت مدن مثل شنغهاى وشينزن خلال عقود قليلة فقط من المحلية إلى العالمية لتروى وتجسد طموحات الصين وقدرتها على تنفيذ مشاريع ضخمة أسهمت فيما أسهمت فى إعادة رسم التركيبة السكانية حين سرعت إنشاء طبقة وسطى واسعة، تمثل الآن قوة محورية فى الاقتصاد الوطني.
كذلك كانت التكنولوجيا ركيزة أخرى لإستراتيجية التنمية فى الصين، حيث قفزت الأمة قفزات هائلة عن المراحل التقليدية لتبنى التكنولوجيا فانطلقت مباشرة إلى قطاعات حديثة مثل الاتصالات والطاقة المتجددة والمواصلات عالية السرعة، بما دفع الصين إلى صدارة سلاسل التوريد، وحولها إلى رائدة فى العديد من الصناعات التكنولوجية العالية ووضع معايير عالمية جديدة.
على المستوى البنيوي، يتجلى تفكير الصين الإستراتيجى المستقبلى بشكل خاص فى مبادرة الحزام والطريق، فمن خلالها يسعى التنين الآسيوى إلى خياطة شبكة من النفوذ الاقتصادى تمتد عبر القارات وتصدير نموذج للتنمية لا يفرق بين المكاسب الاقتصادية والنفوذ الجيوسياسي.
لعل الجانب الأكثر عمقًا فى صعود الصين يكمن فى تأثيره على الشعب الصينى الصديق، حيث أدت الإصلاحات إلى خفض نسب الفقر بشكل كبير، وأخرجت مئات الملايين من الناس من براثنه إلى ظلال الأمن الاقتصادى وتجويد حياتهم، بما يجسد العنصر الأكثر إنسانية فى تحولها.
أقول كمراقب للمشهد الدولي، إن إدراك قصة الصين ضرورة فى التنمية الاقتصادية والحرية السياسية، ونموذج يجب على الدول الأخرى أن تتأمله، لا سيما أنه يزال بكل أشكاله العديدة، يتطور ويستمر فى إعادة تعريف مصيره الوطنى والمشهد الاقتصادى والسياسى العالمي.
إن تحول الصين هو بمنزلة شهادة تأكيد على أن التخطيط الإستراتيجى إلى جانب التنفيذ الأمين والقوى يمكنه التغلب على عقود من الجمود. وبالنسبة إلى صانعى السياسات والاقتصاديين والقادة فى جميع أنحاء العالم، فإن تحول الصين من الضعف إلى القوة ليس مجرد درس فى التنمية الاقتصادية، بل رواية عن الصمود البشرى والإمكانات التى لا تزال تتكشف.