فى الأسبوع الماضى انطلق بى حصان الخيال وتخيلت أن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب عندما عاد إلى البيت الأبيض مرة أخرى لم تكن حقيبته خالية، بل كان يحمل معه «بيريسترويكا» تشبه «بيريسترويكا» الرئيس السوفيتى الأسبق ميخائيل جورباتشوف التى أدت إلى انهيار الاتحاد السوفيتى كأخطر حدث جيوسياسى فى العصر الحديث لما له من تبعات أثرت فى العالم كله ومازالت.
وطبعا معنى «البيروستريكا» اللغوى هو إعادة البناء، لكن ما حققته ونتج عنها منذ أقرها الحزب الشيوعى السوفيتى فى أبريل 1985 على أرض الواقع كارثية، فى مقدمتها الهدم والخراب والقتل والتدمير الذى ساد العديد من بقاع العالم، وفى مقدمتها هدم وانهيار للاتحاد السوفيتى، وكما نعرف جعلها جورباتشوف مفردة سيئة السمعة على كافة المستويات، لذلك أطلق عليها كاتبنا الكبير كامل زهيرى مصطلح «كارثترويكا».
> وإذا كانت عوامل انهيار الاتحاد السوفيتى فى المقام الأول كانت «داخلية» بسبب التطبيق السيئ لمبادئ الاشتراكية والمسافة الهائلة بين النظرية والتطبيق، فإن السبب الذى أتخيله عند ترامب الآن للحاق بـ «الكارثترويكا» الجورباتشوفية، أقصد «البروسترويكا» سيئة السمعة يعتمد فى المقام الأول على أسباب «خارجية» فى مقدمتها تصادمه مع الجميع، والحلفاء قبل الأعداء!
ومع ذلك أرى فى البداية إن الساحة الداخلية الأمريكية حبلى ببعض الأسباب التى أدت إلى تفكك الاتحاد السوفيتى من الداخل مثل تزايد الرغبات الانفصالية لدى بعض ولايته مثل الموجودة فى جمهوريات الاتحاد السوفيتى السابق، صحيح أنها فى هنا مجرد شرر صغير، لكن كم من حرائق عظمى بدأت من مستصغر الشرر كما حدث فى الاتحاد السوفيتي!
> مثلا تتزايد الآن فى الولايات المتحدة الرغبات الانفصالية، وطبقا لما نشرته مجلة نيوزويك الأمريكية أن حركة «NH EXIT»، التى تدعو إلى استقلال ولاية نيو هامبشاير، انضمت إلى قائمة الولايات المؤيدة للانفصال عن الولايات المتحدة من خلال حركات مماثلة فى بعض الولايات الأخرى مثل كاليفورنيا، ألاسكا، لويزيانا، فلوريدا وتكساس.. وأشارت المجلة الأمريكية «على الرغم من أن كل منطقة لديها أسبابها الخاصة للانفصال عن الولايات المتحدة، إلا أن خيبة الأمل فى حكومة البلاد توحدها جميعا».
> وعلى المستوى الخارجى تعالوا نسأل سؤالا ساذجا لماذا تتزايد كراهية العالم الأن لأمريكا أكثر من أى وقت مضى، خاصة بعد وصول ترامب للبيت الأبيض مرة ثانية؟
>> الأجابة واحدة هى زيادة نبرة وأفعال البلطجة والعدوان أكثر من أى وقت مضى وتغييب قواعد القانون الدولى بقصد وعمد، بل والإستهزاء به وبمؤسساته مثل محكمة العدل الدولية..
> مثلا يعلنها ترامب وبشكل فج: أنا جاد بضم كندا للولايات المتحدة لتصبح الولاية الأمريكية رقم 51!!
يعنى وكأننا فى قانون الغاب، لدرجة إعلانه عن قراره سرقة بلاد فى وضح النهار، يعنى مع سبق الإصرار والترصد بلغة القانون غير الموجود فى قاموسه السياسى، ويكرر هذا الفعل فى إعلانه عن نيته ضم جزيرة جرينلاند واعتبارها جزءا من الولايات المتحدة، بل ووصل الأمر لعدم استبعاده استخدام القوة العسكرية أو الاقتصادية لاقناع الدنمارك بتسليمها… ويزيد وزير خارجيته ماركو روبيو «الطين بلة» بقوله إن اهتمام ترامب بشراء الجزيرة «ليس مزحة».
المهم إن كندا والدنمارك عضوان فى تأسيس حلف الناتو منذ 1949 الذى ينص ميثاقه على عدم اعتداء أعضائه على بعضهم البعض، ودفاع الجميع ضد أى أعتداء على أى من أعضائه، وطبعا لاتجد أجابة عن سؤال وماذا سيفعل أعضاء الحلف مع زعيمه البلطجي!!
> وتكرر نفس الموقف مع بنما وإعلان الرغبة فى احتلال القناة، وكأنها ليست موجودة فى دولة بنما، التى لها كافة الحقوق والسيادة على جزء من أرضها طبقا للواقع والقانون الدولي!!
> وطبعا كلنا يعرف ما أعلنه بشأن مشروعه لتهجير أهل غزة من أجل الاستيلاء على وطنهم لإنشاء مشروع عقارى عليها، يعنى يتعامل مع أوطان الغير بمنطق البلطجى والمقاول وسمسار الأراضى والعقارات
> يعنى العالم كله فى جهة وترامب فى الجهة الأخرى، يفقد أوروبا، وفقد العالم الثالث من قبل وفى مقدمته الحديقة الخلفيه والأمامية فى أمريكا الجنوبية والشمالية لبلاده!!
يعنى يفاجئ البيت الأبيض شركاءه الأوروبيين برغبته فى الانسحاب التدريجى من الجغرافيا الأوروبية، مثلما فعل جورباتشوف مع شركاءه فى الكتلة الشرقية، و تسعى واشنطن للذهاب لمسارح عمليات أخرى مثل موطن «التنين الصينى» وبدون ظهير أوروبى، وأعتقد أن هناك تكمن النهاية!!
طبعا كل ده نتيجة سيادة عالم القطب الواحد منذ انهيار الاتحاد السوفيتى وغياب القطبية الثنائية، المشكلة أن ترامب لا يدرك أن عصر القطب الواحد يحتضر الآن، وأن العالم فى طريقه لعالم متعدد الأقطاب قد يكون من بينها ولو لفترة.. أتذكر قول الرئيس الروسى فلاديمير بوتين فى خطابه أمام مؤتمر ميونخ للسياسات الأمنية 2007 أن البشرية عرفت فترات ساد فيها نظام القطب الواحد، يعنى مركز قرار واحد، ومركز قوة واحد، ومركز سلطة واحد، وهذا النظام ضار أولا بالدول التى تخضع له والتى أنتزعت منها السيادة، وضار ثانيا بالقطب الوحد لأنه سينحره من الداخل، وأحادية القطب مهلكة فى نهاية المطاف للجميع لأنها مصدر مأسى إنسانية وبؤر توتر لا تنتهي!!