انطلق بى حصان الخيال وأنا أتابع الساحة الدولية وتفاقم الأوضاع منذ عودة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مرة أخري، وجدتنى أسأل نفسي: هل سيكون الرئيس ترامب بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية مثل الرئيس السوفيتى الأسبق ميخائيل جورباتشوف بالنسبة إلى الاتحاد السوفيتى السابق؟
بمعنى آخر: هل ستؤدى سياسية ترامب إلى بيريسترويكا ترامبية موازية لبيريسترويكا جورباتشوف التى أطلقها عام 1985 وأدت إلى تفكك الاتحاد السوفيتى فى ديسمبر 1991 إلى جمهوريات مستقلة ومنها أوكرانيا التى تحارب روسيا الآن (كانتا جمهوريتين يجمع بينهما الاتحاد السوفيتى ضمن 15 جمهورية)، يعنى هل ستؤدى بيريسترويكا ترامب إلى تفكك الولايات المتحدة إلى 51 ولاية مثلما حدث لجمهوريات الاتحاد السوفيتى السابق؟
وهل ستؤدى بيريسترويكا ترامب إلى نفس نتائج بيريسترويكا جورباتشوف، تفكك حلف الأطلنطى مثلما تفكك حلف وارسو، وانهيار الكتلة الغربية كما انهارت الكتلة الشرقية، وانتهاء عالم القطب الأمريكى الواحد مثل انتهاء عصر القطبية الثنائية على يد جورباتشوف؟
هل سنستمع بعد سنوات قليلة خطابا للرئيس الروسى بوتين من الكرملين يشكر فيه الرئيس ترامب على ما فعله من تفكك الولايات المتحدة وما تلاه، مثلما فعل الرئيس جورج بوش فى خطابه أواخر 1991 وشكر فيه جورباتشوف على جهوده فى تفكيك الاتحاد السوفيتي!!
قد يقول القارئ على أى أساس انطلق بك الخيال فى طرح هذه الأسئلة، أقول:
فى البداية قد تكون الأسباب مختلفة فى الحالتين، داخلية عند جورباتشوف، وخارجية عند ترامب، لكن أعتقد ان الساحة الدولية الآن حبلى بالأسباب التى ستؤدى فى نهاية المطاف إلى مخاض جديد.. كيف ؟
> أولا تعتمد سياسة ترامب الآن على الانسحاب من أوروبا والشرق الأوسط والذهاب إلى حدوده مع المكسيك وكندا والمحيط الهادى والهندى لمواجهة الهجرة والتهريب كما يقول وخطر الصين رافعا شعار انه لن يحمى أحدا، ومن يرد الحماية عليه أن يدفع ثمن حمايته، لماذا ؟ لأن المواطن الأمريكى كما يقول لن يدفع من ضرائبه ثمن حماية الآخرين!!
نعم ظهر هذا التوجه بتصريحات ترامب هنا وهناك، فى ولايته الأولى وبداية الثانية، لكن المشادة التى حدثت أوائل هذا الأسبوع بينه ونظيره الأوكرانى زيلينسكى أمام العالم كله وبعيدا عن الغرف المغلقة وعلى الهواء مباشرة بعد ان سمح للإعلام ان ينقل ذلك على خطى سينما هوليود يؤكد ذلك… إنه يريد استرداد ما دفعته إدارة بايدن لأوكرانيا من قبل (حوالى 350 مليار دولار) من أسلحة ومعدات فى حربها مع روسيا، معلنا عدم الاستمرار فى هذا النهج.
والحرب الروسية ــ الأوكرانية ليست بين البلدين فحسب، ولكن خطط لها بعناية لتكون حرب روسيا مع الغرب بعد تفكيك الاتحاد السوفيتى وضم بعض جمهورياته السابقة إلى الاتحاد الأوروبي، وزادت المواجهة بمحاولة ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو على غرار جمهوريات سابقة من الاتحاد السوفيتي، يعنى نشر الصورايخ الغربية على حدود روسيا مباشرة. . وإذا كانت هذه الحرب هى بمثابة «هز» عرش الدب الروسى وتهديده فى عقر داره فهى تعكس من جهة أخرى فى هذه المرحلة تحولاً درامتيكياً فى السياسة الأمريكية سيؤدى إلى حقبة «جيوسياسية جديدة» بدأت ملامحها فى الظهور، والبداية الكاشفة استعداد أوروبا للانسحاب الأمريكى من معادلة أمنها.
يعنى ستكون أمريكا بلا أوروبا، مثلما هى روسيا الآن بدون دول أوروبا الشرقية التى أنضمت إلى الاتحاد الأوروبي!، وستكون أوروبا بلا أمريكا، مثلما هو الحال بالنسبة لأوروبا الشرقية سابقا!!
> وفى البداية وبشكل أكثر وضوحا كشفت المشادة العلنية التى وصلت إلى حد الردح السياسي، واستعراض العضلات الأمريكية وبشكل يختلف عن المتعارف عليه دبلوماسيا بانتقال مباحثات الغرف المغلقة لأول مرة لتكون على الهواء مباشرة وفى حضور كاميرات الإعلام ويصفها ترامب بأنها لحظة تليفزيونية جيدة، طبعا كل شئ مقصود، وكما أظن هو ميلاد حقبة جيوسياسية جديدة فى أولى مفرداتها، بأن ما حدث بين ترامب وزيلينسكى كاشف لها وليس منشئا لها بلغة فقهاء القانون
> ثانيا: فاجأت واشنطن شركاءها الأوروبيين برغبتها فى الانسحاب التدريجى من الجغرافيا الأوروبية، مثلما فعل جورباتشوف مع شركائه فى الكتلة الشرقية، وتسعى واشنطن إلى إعادة ترتيب أولوياتها الإستراتيجية بالتركيز على مسارح عمليات أخرى أكثر أهمية، بما فيها منطقة المحيطين الهندى والهادئ.
وكما تقول التقارير يشمل هذا التوجه نقل القوات الأمريكية التقليدية المتمركزة فى أوروبا، بما فى ذلك السفن والصواريخ بعيدة المدى والطائرات التكتيكية ووحدات الانتشار المتقدم، إلى مناطق ذات أولوية أعلي، مثل تأمين الحدود مع المكسيك أو تعزيز وجودها فى منطقة المحيطين الهندى والهادئ.
ولا تقف الأمور عند ذلك بل إعلان واشنطن سعيها لتقليل إنخراطها فى الصراعات المستمرة فى أوروبا الشرقية، بل والانسحاب منها إلى درجة اتهام ترامب للرئيس السابق بايدن بـ»الرئيس المعتوه» بسبب دفعه 350 مليار دولار فى الحرب فى أوكرانيا، يعنى يبرر تدخله لوقف إطلاق النار بين الروس والأوكرانيين من جهة ومن جهة أخري، ترك مسئولية تنفيذه على عاتق الأوروبيين.
باختصار « أمريكا ترامب» لم تعد الضامن الأساسى للأمن فى أوكرانيا أو القارة الأوروبية ككل، والنتيجة حالة من التخبط الأوروبى وتحديات وفجوات دفاعية بعد ان تخلى عنهم الكاوبوى الأمريكى …!!
البقية الأسبوع القادم