يُعتبر الإعلام، بمختلف وسائله، أداةً قويةً فى تشكيل العقول وتوجيه المجتمعات، وهو سلاح ذو حدين؛ إما أن يُستخدم لبناء الوعى وترسيخ القيم، إما أن يتحوّل إلى وسيلة هدم تهدد الاستقرار المجتمعى وتُضعف الروابط الأسرية والأخلاقية. فى هذا السياق، تعدّ الدراما المصرية واحدة من أكثر الأدوات تأثيرًا على المجتمع، نظرًا لانتشارها الواسع وشعبيتها الكبيرة بين مختلف الفئات العمرية، إلا أن التحولات الأخيرة فى مضمون بعضها أثارت قلقًا بالغًا، حيث باتت بعض المسلسلات تحتوى على مشاهد عنف مفرط، وسلوكيات خارجة عن القيم الأخلاقية، وطرح قضايا بأسلوب غير مسئول يُكرس الفوضى ويهدد التماسك المجتمعي.
ولأن الدراما ليست مجرد تسلية، بل هى جزء أساسى من تشكيل الهوية الثقافية والقيمية للمجتمع، أصبح من الضرورى إعادة النظر فى دورها ومسئوليتها، خاصةً فى ظل التحديات التى تواجهها مصر على مختلف الأصعدة.
أولاً: الدور التقليدى والتاريخى للدراما المصرية فى تشكيل الهوية المجتمعية
لم تكن الدراما المصرية مجرد أداة للترفيه، بل كانت تاريخيًا أحد أهم عوامل التأثير الثقافى والفكرى داخل مصر وخارجها. فمنذ بدايات السينما والتلفزيون، لعبت الدراما دورًا مهمًا في:
1. ترسيخ القيم الوطنية: عبر أفلام ومسلسلات جسدت نضال المصريين ضد الاستعمار، مثل أفلام رد قلبى وناصر 56 وأيام السادات، والتى غرست فى الأجيال معنى الوطنية والانتماء.
2. تقديم نماذج إيجابية فى المجتمع: مثل دور المعلم الشريف فى مدرسة المشاغبين، والقاضى العادل فى دموع فى عيون وقحة، وهى شخصيات ساهمت فى تشكيل وعى المصريين حول المهن والقيم الأخلاقية.
3. معالجة القضايا الاجتماعية بطريقة مسؤولة: كما رأينا فى ليالى الحلمية والراية البيضا، حيث تناولت هذه المسلسلات الفوارق الاجتماعية وتحديات التنمية بأسلوب نقدى راقٍ، بعيدًا عن الفجاجة والمبالغة.
إلا أن المشهد الدرامى المصرى اليوم يمر بتحول خطير، إذ انحرفت العديد من الأعمال عن هذا المسار، وباتت تعتمد على عناصر الإثارة السطحية، والمبالغة فى تصوير العنف، وتمجيد الشخصيات السلبية، مما يؤثر بشكل مباشر على أخلاقيات المشاهدين وسلوكهم الاجتماعي.
كما انتشرت مسلسلات تتبنى رؤى سوداوية عن المجتمع، تُظهر مصر كمكان يسيطر عليه الفساد والعنف، مما يزرع الإحباط بين المواطنين، خاصة الشباب.
> غياب إبراز الإنجازات الوطنية والمشاريع التنموية الحديثة، مما يجعل الجيل الجديد أقل وعيًا بما يحدث فى وطنه.
> لذلك يجب إعادة النظر فى دور الرقابة الفنية، بحيث لا تكون رقابة قمعية، بل تصحيحية، تضمن تحقيق التوازن بين حرية الإبداع والمسئولية الاجتماعية.
> استحداث ميثاق شرف درامى يلزم صُنّاع الدراما بالحد من مشاهد العنف والمحتوى غير الأخلاقي.
2. دعم الدراما الهادفة والإيجابية
> تقديم حوافز إنتاجية للأعمال التى تناقش القضايا الاجتماعية بأسلوب بنّاء.
> إطلاق مهرجانات تشجع على صناعة دراما وطنية تعكس القيم المصرية الأصيلة.
3. توجيه الإعلام نحو النقد البناء
> زيادة البرامج التوعوية التى تُناقش التأثير السلبى للدراما الهدامة، وتعزز الوعى لدى المشاهدين.
> تشجيع النقاد الفنيين على تقديم تحليلات موضوعية تُبرز الأضرار التى قد تسببها بعض الأعمال الفنية.
4. إدماج المؤسسات الدينية والتعليمية فى التوجيه الإعلامى
> تعزيز دور الأزهر ودار الإفتاء فى تقديم رؤية شرعية وأخلاقية حول المحتوى الإعلامى دون وصاية أو قمع للإبداع.
> دمج التربية الإعلامية ضمن المناهج الدراسية لتعريف الطلاب بأسس النقد الفنى ومعايير المحتوى الأخلاقي.
5. إشراك الجمهور فى صناعة القرار الإعلامى
> إطلاق منصات تفاعلية تتيح للمشاهدين تقييم الأعمال الدرامية وإبداء آرائهم حول جودتها ورسائلها.
> تنظيم حملات شعبية تطالب بإنتاج دراما تتناسب مع القيم المصرية.
الدراما بين الإبداع والمسئولية المجتمعية
تُعتبر الدراما أحد أهم روافد تشكيل الوعى المجتمعي، وإذا لم تتم إدارتها بحكمة، فقد تتحول إلى أداة هدمٍ بدلاً من أن تكون وسيلة بناء. إن إصلاح المحتوى الدرامى لا يعنى فرض قيود قاتلة على الإبداع، وإنما يعنى تحفيز إنتاج محتوى يخدم المجتمع، ويعزز قيمه، ويحافظ على استقراره.
لا ننكر أننا نعيش الآن تجربة مهمة وهى دراما المتحدة التى نجحت فى خلق مساحة متميزة من الفن القادر على ترسيخ قيم مجتمعية.. وتقديم قدوة من خلال الفن.. لكن هذه التجربة لا يمكن أن تواجه وحدها قيم الإسفاف والتشويه التى تظهر فى أعمال جهات أخرى ولذلك لابد من مساندة مجتمعية لمشروع المتحدة لأن المستقبل الدرامى فى مصر مسئولية مشتركة بين الدولة، وصناع الإعلام، والجمهور، والمؤسسات التعليمية والدينية، والجميع مطالب بالمشاركة فى إعادة توجيه المسار الدرامى نحو ما يخدم المصلحة العامة، ويحمى النسيج الاجتماعى المصرى من التفكك والانهيار.