سأل أحد الطلاب النابهين صديقى أستاذ التاريخ المحترم لماذا نعرف تفاصيل كثيرة عن تاريخنا القديم والحديث لكن تاريخنا المعاصر لم نستقر بعد على تحديد مواقعه وأحداثه وظروفه وشخصياته؟ فأجاب الأستاذ مبتسماً فى مرارة لأنه يتغير كثيراً ، ويهرب سريعاً! يطرح الفيلسوف الفرنسى «جان كريستوف بوتون» سؤاله: هل يتسارع التاريخ؟ وإلى أين يهرب؟ أصبحت الأحداث على كل مستوياتها الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمناخية تركب عربات طائشة فائقة السرعة تنطلق بها إلى مجهول لا نعرفه ولا يتم تسجيل شىء يمكن أن نفهمه، إنها تنطلق مسرعة بأقصى سرعة هاربة وتبدو عصية على التأمل أو التفكر أو التذكر لأحداثها وزمنها، وتظل المشكلة فى إيقاع الأحداث الحركى بحيث لا يمكن تشكيلها تاريخياً وتصنيفها وترتيبها فى فترات وتحت مسميات معينة؟ إنها صيرورة أو تغير دائم مجنون يتجاوز حدود ذاكرتنا ورؤيتنا وغايتنا.
إننا لا نستطيع أن نفسر أو نحلل أو نصدر حكماً قيمياً على أحداث التاريخ المعاصر، فقط نلاحظ متتابعات وتعاقبات لأحداث تخطف الأبصار وتقطع الأنفاس دون قدرة على الدرس والحكى والحفظ، ونفهم أن فى علم الطبيعة ارتباط زيادة السرعة بالوقت كما فى انطلاق قطار سريع مثلاً لكن التاريخ الآن والذى يمثل أيقونة الزمن فى عالمنا المعاصر هل يمكن قياسه إلى حركة شىء مادى مثل القطار السريع، هل يعد هذا التاريخ فى أقصى سرعته نهاية للتاريخ؟ هل يمثل الحاضر التاريخى المتسارع صورة المستبد الذى يلغى الماضى ويفك ارتباطاتنا بالمستقبل إذ يحطم منظومات التجارب الزمنية فى مجتمعاتنا وفقاً لمعايير معينة تستلهم الماضى وتعد العدة لمستقبلها بتأن وفهم وإدراك صورة القادم أو ما يجب أن يكون عليه.
إن التسارع يمثل أزمة قطع بين الماضى الذى يبدو شبحياً ومستقبل مثير للرعب فى ظل حاضر يركض سريعاً كطيف عابر لا يمكن تحديد ملامحه أو سماته ولا إلى أين يتجه بنا. ويكشف «لوتون» عن حقيقة جديدة وهى ظهور مفهوم «الأنثروبوسين» أو بداية التأثير البشرى المهول على جيولوجيا الأرض والتكنولوجيا ، ومن ثم تغير المناخ البشرى وتأثيره على الأرض وحياة الإنسان.
إنه لا يتحدث فى ارتباط تاريخ الطبيعة بتاريخ البشر، بل سلوك البشر وتأثيره على عمليات الظواهر الطبيعية الأساسية مثل المناخ، والتى كان لها قدرة على تحديد تاريخ البشر لا أن يحددها التاريخ البشرى ذاته. لم تعد الطبيعة مكاناً لتكرار الظواهر بل تنذر على مسرح أحداثها بنهاية ظهورها المتكرر وخلف الكواليس يوجد تاريخ هارب من التزاماته الإنسانية بالتفكير والحكى والحفظ. وببساطة صار «الأنثروبوسين» المكون الأساسى لعصرنا، ومن ثم فإنه يسرع بنهاية التاريخ الذى تتصارع محركاته وتختلف اتجاهاته نحو آفاق مجهولة.
وتبقى رباعيات المبدع «صلاح جاهين» معبرة عن قلق النهايات المستمر عندما يقول نوح راح لحاله.. والطوفان استمر، مركبنا تايهه ولسه مش لاقيه بر آه من الطوفان.. وأهين عليك يا بر إزاى تقدر تبان والدنيا غرقانه شر.