متى تقدم جهات الإنتاج دراما القدوة وبناء الوعى؟!

منذ الإعلان عن أحد المسلسلات الذى يقدم عالم الراقصات وقد آثار الكثير من الجدل ورغم محاولة صناعه الترويج له باعتباره عملاً استثنائيا لكن مع بدء عرضه جاءت الصدمة الكبرى للجمهور فبدلًا من تقديم قصة تحمل قيمة فنية أو اجتماعية وجدنا أنفسنا أمام استعراض مبتذل ولغة متدنية فى الحوار لا تمثل المجتمع المصرى الحقيقى بل تشوهه.
رأينا رقصًا وعريًا ومجونًا وفسقًا وفجورًا ونمطية تصل إلى حد السذاجة يضاف إلى ذلك الأداء المفتعل والمحتوى المليء بالألفاظ الخارجة وبدلاً من أن نشاهد دراما تعبر عن قضايا الناس والوعى أو حتى مناقشة قضايا هذه الفئة بعقلانية ولغة مقبولة وجدنا حفلات وخلاعة تسوق وكأنها جزء من الثقافة المصرية بينما الحقيقة عكس ذلك تمامًا فمصر ليست مجرد أضواء ملونة وموسيقى صاخبة وراقصات بل هو بلد المبادئ والقيم والتاريخ العريق فما الهدف من تقديم هذا النموذج المشوه للمجتمع؟
الأسوأ من ذلك أن العمل لم يقدم أى تطوير فى أسلوب الطرح فكل شيء بدا مستنسخًا من أعمال سابقة سقطت فى نفس الفخ الاستعراض والرقص والابتذال دون رسالة والسطحية دون مضمون.
وإذا كان هذا المسلسل العائلى اخراجاً وتمثيلاً يقدم صورة زائفة عن مصر، فإن هناك مسلسلات أخرى تأخذنا إلى الجانب المظلم حيث تجعل البلطجة أسلوب حياة والصوت العالى هو الحل لكل شيء.
فى هذه المسلسلات لا توجد مساحة للإبداع أو القيم الحقيقية بل مجرد صراعات مفتعلة وحوارات عقيمة مليئة بالتعبيرات المسيئة واللغة الهابطة ومشاهد الذبح المقززة والمصطلحات العنيفة التى تعكس بيئة مسمومة لكنها تقدم وكأنها واقع طبيعى فى المجتمع المصري، حتى الأداء واضح منه انه مفتعل حيث يصرخ الجميع فى وجه بعضهم البعض طوال الوقت وكأن الصراخ هو البديل عن السيناريو الجيد!
إن أخطر ما تقدمه هذه النوعية من الدراما هو ترويج نموذج البلطجى كبطل وهو أمر فى غاية الخطورة لأن هذه المسلسلات لا تعرض البلطجة كظاهرة سلبية يجب محاربتها بل تصورها كوسيلة للنجاح والسيطرة وكأن مصر كلها بهذا الشكل مما يخلق قدوة سيئة لدى فئات الشباب والمراهقين.
وجهان لعملة واحدة!
وقد تبدو المسافة شاسعة بين عالم الخلاعة المليء بالأضواء والموسيقى وعالم البلطجة حيث العنف هو الحل لكل شيء، لكن فى الحقيقة كلاهما وجهان لعملة واحدة دراما وتبتعد عن الواقع وتفرض على المشاهدين إما أحلامًا زائفة أو نماذج سامة.
بل إن هذه الدراما تقدم ما هو أسوأ وهو حشد كل مظاهر الخروج عن القانون فى عمل واحد، للأسف يشارك فيه عدد من نجوم الشباك لكنهم يقدمون كوكتيلا مكوناً من سرقة وقتل ومخدرات وتآمر وخيانات وكل أشكال العنف الممكنة.
بالطبع المشكلة ليست فى عرض الجريمة بحد ذاتها لأن المجتمع بالتأكيد فيه الجريمة وفيه الخيانة، لكن المشكلة هى الطريقة التى يتم تقديمها بها فبدلاً من أن يكون هناك عمق درامى يوضح أسباب الجريمة وتأثيرها السلبى على المجتمع نجد أنها تعرض الجريمة بأسلوب يجعلها تبدو وكأنها حالة عامة فى المجتمع وطريق مشروع لتحقيق النفوذ والقوة.
كما أن اللغة السائدة فى هذه المسلسلات هى لغة البلطجة والمفردات المستخدمة فيها الكثير من الألفاظ الخارجة وكأننا أمام واقع لا يوجد فيه احترام ولا أخلاق.
فهل هذا هو المجتمع المصري؟
بالتأكيد لا.. فمصر ليست ساحة حرب بين البلطجية ولا بلد يستعرض الراقصات والمجون بل هى بلد المبادئ والقيم والاحترام، بلد عموم شعبها يرفض الجريمة ويرفض الخروج عن المبادئ حتى الحارة الشعبية التى تحاول هذه المسلسلات تشويه صورتها فى حقيقتها مناطق تقوم على الحدوتة واخلاقيات الكرم والمحبة وليس البلطجة.
إن الدراما المصرية طول عمرها رائدة وكانت مرآة حقيقية للمجتمع تقدم قضايا الناس وتناقش همومهم بأسلوب راقٍ ومؤثر أين نحن من» ليالى الحلمية» و»الشهد والدموع» و»زيزينيا « و»خالتى صفية والدير»؟
أين نحن من «الاختيار» و»أبو العروسة» و»هجمة مرتدة» وغيرهم كثير لماذا تحولت الدراما فى بعض القنوات إلى خليط من الرقص والبلطجة بينما الواقع المصرى مليء بقصص أكثر عمقًا وإنسانية؟
لماذا تصر بعض الأعمال الدرامية الحديثة لبعض القنوات على رسم صورة غير واقعية للحياة فى مصر؟ ولمصلحة من يتم تسويق هذا النمط من الدراما الهدامة؟
هذه المسلسلات ليست مجرد ترفيه بل هى أدوات تأثير وما يتم تقديمه اليوم من هذه النوعية من المسلسلات يساهم فى نشر ثقافة سامة تهدم القيم بدلا من تعزيزها.
كما أن المسلسلات التى تروج للسطحية أو العنف أو الجنس أو المخدرات ليست مجرد مسلسلات بل هى أدوات تأثير خطيرة تشكل وعى الأجيال الجديدة.
المطلوب: دراما تحترم وعى المشاهدين!
ما نحتاجه اليوم هو ثورة حقيقية فى عالم الدراما ثورة تعيد الفن إلى مكانته الحقيقية كوسيلة للتعبير عن المجتمع بشكل محترم لا كأداة لتسطيحه وتشويهه.
يجب أن تتعامل هذه القنوات بنوع من احترام قيم المجتمع وتقدم أعمال تعبر عن هذه القيم المصرية الحقيقية وتقدم محتوى راقيًا يحترم عقل المشاهد بدلاً من هذا الفيض من المسلسلات التى تروج للسطحية والعنف والخروج عن القانون.
المطلوب دراما تبتعد عن تسطيح الواقع أو تجميل العنف بل تقدم قصصًا تُلامس الحياة اليومية وتعكس المشكلات الفعلية للمجتمع دون تزييف فالمشاهد لم يعد بحاجة إلى بلطجى خارق أو حفلات استعراضية ورقص وابتذال بل إلى دراما تعبر عنه بصدق وتحترم وعيه.
ما نحتاجه اليوم هو دراما الوعى التى تعيد للناس الثقة فى أنفسهم لا أن تغرقهم فى الأوهام أو تجعل من العنف بطلاً جديدًا لهم وتريند تربح من ورائه وتشوه المجتمع.
مصر تستحق فنًا أفضل مثل ما تقدمه الشركة المتحدة مثل «النص» و«كامل العدد»، «الكابتن»، و«حسبة عمرى» و«تقابل حبيب» بل حتى الدراما التى تناقش فيها المتحدة الجريمة تتناولها فى إطار لا يخرج عن الحدود، ولا يتجاوز القيم ولا تلجأ إلى الإسفاف، وهذا ما يحتاجه المشاهد المصرى الذى يستحق بالفعل دراما تحترم وعيه بدلاً من هذه الأعمال التى تحاول أن تفرض عليه واقعًا ليس واقعه.
مصر تستحق فن القدوة والأخلاق، فن القضايا الهادفة والحوار الذى يرتقى بمفاهيم الأجيال الجديدة نتمنى عودة هذه القنوات والجهات الإنتاجية إلى الدراما الهادفة والبعد عن لغة المال وصوت الرقص والبلطجة.