أبناء سيناء قاموا بما عليهم لصالح هذا الوطن، وكانوا أول مَن سدد فاتورة الدم دفاعًا ليس فحسب عن سيناء إنما عن الوطن… ترابه المقدس وأهله الطيبين، وكان مقتضى الحال يستوجب حكى بطولات المصريين أبناء سيناء ليس سردًا لمرثية هؤلاء الرجال والنساء والأطفال؛ بل لرد الفضل لأصحاب الفضل على كامل الوطن، هم مَن تقدموا طواعية عقب النكسة لمساعدة قواتنا المسلحة فى استعادة الأرض والكرامة ولو كلّفهم هذا السبيل الروح والدم، ولم يعلموا أن أحدًا سيذكرهم، ولم يقدموا على التضحية لمجد يسعون إليه بل لمجد الوطن وأهله… وهم الذين منحتهم أرض سيناء المقدسة نوعاً من قداسة البطولة، وكرم التضحية، وعفوية الفداء
طار الشاب فرحًا فقد اطمأن قلبه وهدأ خاطره بتأكده بتخطيط جيش بلاده للعودة إلى سيناء، وما عليه إلا أن يجتهد فى تنفيذ الأوامر والتعليمات الصادرة له من الغرب ليكون سمع وبصر قواته المسلحة.
بدأ على الفور الشاب عبدالله بانتقاء بعناية فائقة يبحث عن هؤلاء الهادئين والمتريثين، لا مَن يندفع بحماسة الوطنية وقد يفسد المهمة ويطيح ببقية عناصر المجموعة، فكل شباب القبيلة على استعداد للمشاركة، إنما هو كان يدقق فى الاختيار، وطبقًا لشروط سبق وسمعها من النقيب عادل يجب أن يتسم بها جامع المعلومة حفاظًا عليه وعلى مَن حوله، وأيضًا على تمام تنفيذ المهمة بكفاءة واقتدار، ومرت الأيام وتشكلت المجموعتان من أبناء الترابين تحت قيادة الشيخ عبدالله، وقدمتا أعمالًا رائعة فى تنفيذ المهام الموكلة إليهما، لكنه الرجل ما زال يريد الانتقام ولا يشفى غليله جمع المعلومات وتصوير ما يلزم، حتى جاءته التعليمات بتنفيذ عملية جمع معلومات وتصوير فى عمق العدو وليس فى سيناء! وللسرية المطلقة اختار عناصر التنفيذ بدقة متناهية الحكمة، حتى أن العنصر كان يجيد عدة مهارات منها: التصوير والتخفى والتموية والقتال المتلاحم والتفخيخ والتفجير ومحو الأثر، والأهم كان كل منهم يريد العودة بالمهمة ناجحة حتى يسلمها كما كانت أوامر التنفيذ، فلم يتحدث أحد من العناصر الخمسة الذين شكلوا فريق المهمة المستحيلة فى العمق بأنه سيموت، بل كان التخطيط هو العودة لجميع العناصر سالمين حتى تنجح المهمة ليس للخوف من الموت!
شجع نجاح تلك المهمة الغاية فى الأهمية والسرية، التى تم تنفيذها وإتمامها دون أن يلحظ العدو شيئًا فارقًا، وتوالت المهام فى العمق بقيادة الشيخ عبدالله جهامة حتى أنها لم تعد تقتصر على جمع المعلومات فحسب، بل الإغارة بالقوة وجلب وثائق وربما أسري!
وظل الأمر غاية فى الكتمان حتى عن والدة ووالد الشيخ عبدالله؛ فلم يزد فى الأمر شيء جديد إلا أنه كان يقول لوالديه قبيل تنفيذه للعمليات السرية فى العمق: «أنت راضٍ عن ولدك يا بوي؟» ولم يزد عن هذا ببنت شفاة لعلمه بدرجات السرية القصوى وحتميتها، وأما والدته فكان فحسب يلتقطها فى حضنه ويغمض عينيه ليكتم عنها سره، لكنهما هما مَن صنعاه وجاءا به إلى دنيا البطولة، فبعد الانتصار حدثاه عن علمهما بما كان يفعل لا تفصيلًا إنما إجمالًا؛ فقد شعرا –بقلب الوالدين– ببطولة ابنهما وتلمسا حرارة غيرته على أرضه سيناء منذ أن كان يقدم طعامه للنقيب عادل، حتى أن والدته أخبرته فيما بعد : «كنت أجلس بجوارك ليالٍ طويلة وأنت نائم، أخشى من أن تتفوه بكلمة وأنت فى نومك فيسمع سرك غيري، وكنت أنظر إليك أملى عينى من ولدى الذى أخشى فراقه فى أى من العمليات التى كنت تقوم بها». وعندما يسألها: «لماذا أخفيتى عنى علمك يا أمي؟» فتجيب بعد تنهيدة طويلة: «يا ولدى كنت عايزاك دايمًا تجول لنفسك لما أمى ما تعرفش يبقى ما حدا غيرها يستحق إنه يعرف سري، فخفت عليك يخرج سرك من قلبك، حتى لأمك، وكمان يا وليدى أنا بطلة كيف ما ولدى بطل، أنت بتنفذ عمليات ما بعرف غير أنها وطنية وفدائية، وأنا كمان بصبر وأحتسب وأدعى وأصلى لربى ينجيك ويحميك وينجح مرادك، هو ده جليل عليَّ يا وليدي؟!» وهنا يقبل الشيخ البطل يد أمه وجبينها.
ونعود لعمليات المقاومة فى سيناء التى تحولت من الرصد وجمع المعلومات عن العدو إلى تكليف القيادة فى الغرب للشيخ عبدالله بتدمير ونسف بعض الطرق الرئيسة والمدقات المهمة، كما حدث فى عمليات تدمير ونسف طرق منها طريق الحمّة، والميليز، وزاد الأمر إلى تدمير مدرعات العدو المحملة بالأسلحة أو المعدات ذات الأهمية القصوى لديهم وذات أهمية لدى القيادة فى الغرب فى تدميرها وحرمان العدو من استخدامها ضد قواتنا، حتى أن فى إحدى عمليات التدمير والنسف لعدد من اللوريات المحملة بالذخائر ذات الأعيرة المختلفة والقنابل الهجومية، وكان لدينا معلومات دقيقة بحمولة اللوريات، وبعد أن تم إبلاغ القيادة فى الغرب بالمعلومات الدقيقة؛ صدرت لنا الأوامر برصد طرق تحرك اللوريات وتدميرها عن بُعد عن طريق زرع الألغام التى تعلمناها، وكنا نبرع فى أدائها ونتبارى ونحن نغلق أعيننا!
وبالفعل تم رصد محاور تحرك اللوريات والتأكد من حمولتها المطلوب تفجيرها، وعلى طريق بغداد تم تنفيذ المهمة وكنت أراقب انفجار اللوريات وكأنها قنبلة ذرية من خلال المنظار المكبر أو ما نسميه (الدربيل)، وتم توصيل معلومة تمام التنفيذ.