منذ جاء من قرية «الخياطة» بمحافظة دمياط مروراً بالمنصورة.. ووصولاً إلى القاهرة.. وارتفاع أسهمه.. وشهرته كان قانونه: إذا دخلت السبوبة من الشباك.. خرج الفن من الباب!
والسبوبة من مصطلحات الوسط الفنى ومعناها «مشى حالك» والمهم الفلوس بصرف النظر عن قيمة ما تعمله.. فهل نجح الكاتب الكبير «بشير الديك» أن يحقق تلك المعادلة شبه المستحيلة بين فن يريده ويحقق طموحه.. وبين هلس يأتى بملايين ولكنه مثل غثاء السيل؟
وقد سألوه مراراً وتكراراً ماذا عن مرحلة عملك مع نادية الجندى بأفلامها التى تغازل الجمهور وشباك التذاكر؟ وكانت إجابته: أنا رجل حرفته ومصدر رزقه الكتابة وراجعوا أفلامى مع نادية «الضائعة ـ الإرهاب ـ شبكة الموت ـ عصر القوة ـ مهمة فى تل أبيب ـ حكمت فهمي».. فى كل فيلم منها قيمة معينة لكن بطريقة شعبية بلغة يستطيع أن يفهمها كل الناس.
وبشير فى هذا الكلام لم يتجاوز الحقيقة.. ومن المهم أن نكمل الصورة عنه بأن هذا الكاتب هو أيضاً صانع الروائع: «سواق الأتوبيس ـ النمر الأسود ـ لايزال التحقيق مستمراً ـ موعد على العشاء ـ طائر على الطريق ـ الحريف ـ أيام الغضب ـ ضربة معلم ـ زيارة السيد الرئيس».. وهو أيضاً مؤلف ناجى العلى عن حياة الرسام الفلسطينى الشهير الذى جرى اغتياله فى لندن لأن الصهاينة أزعجهم شخصية «حنضلة» التى قال من خلالها الكثير.. وتعرض بسبب الفيلم مع بطله ومنتجه نور الشريف إلى هجوم إعلامى بغيض.. وكل هذا ذهب إلى النسيان وبقى الفيلم كواحد من الأعمال الخالدة التى أشارت إلى القضية الفلسطينية بعين مختلفة.
أكل عيش
كان من الممكن أن يظل «الديك» مثل غيره.. مجرد صنايعي.. فى دنيا كتابة السيناريو.. لكنه تميز عن غيره.. لأنه من اللحظات الأولى أراد أن يفهم العملية السينمائية كيف تتم من الألف إلى الياء.. يحضر التصوير والمونتاج والمكساج.. ويفهم فى زوايا التصوير والإضاءة وأحجام اللقطات.. إلى جانب ثقافته العامة.. ولم يتخبط فى أول حياته ويتنازل لكى يلمع اسمه ويزداد أجره فقد كان محظوظاً عندما كانت خطوته الأولى مع مخرج كبير من نوعية أشرف فهمى وزميل له خبرة فى هذا الميدان هو مصطفى محرم الذى شاركه فى كتابة الفيلم وهو صاحب فكرته.. وقد جاءت الفرصة بعد 21 سنة من تخرجه بجامعة القاهرة.. وطوى هذه الفترة وهو يكتب القصة القصيرة ويقرأ ويتعرف على دنيا الثقافة من حوله وبذلك يعتبر حالة فريدة فهو لم يتعلم فى ورشة مثل غيره ولا بدأ خطوة خطوة لأن فيلمه الأول حقق النجاح على المستوى النقدى والجماهيرى خاصة أن مخرجه ليس من النوع الحنجورى لكنه من أهل السينما بحق.. وهو مثل بشير يحب أن يقرأ السيناريو من مؤلفه كلمة كلمة.. وحقق فى أشهر قليلة ما لم يستطع غيره أن يحققه فى سنوات بفيلمى «مع سبق الإصرار ـ لايزال التحقيق مستمراً».. ثم كانت المرحلة التالية فى حياته عندما تكونت صحبته مع عاطف الطيب ومحمد خان وداود عبدالسيد وخيرى بشارة.. لكى تنقذه من كتابة أفلام أغلبها لأكل العيش وإن حاول فيها أن يقول كلمة.. لكن السينما صناعة تحكمها أمور كثيرة أهم من ثقافة المؤلف وموهبته ومع هذه الصحبة أعلن عن نفسه.. كما أعلنوا هم أيضاً عن أنفسهم كحركة جديدة فى تاريخ السينما المصرية.. بعد جيل جماعة السينما الجديدة «محمد راضى وعلى عبدالخالق وأشرف فهمي».
وارتباط بشير بأجيال مختلفة من المخرجين أعطى لتجربته تميزاً فكل جيله بل كل مخرج من لون يختلف عن زميله.. فعلى مستوى الصنعة والاحتراف يبرز ارتباطه بنادر جلال وأشرف فهمي.. وعلى مستوى الواقعية وربط السينما بالوطن والمواطن ووجود النظرة السياسية بشكل أو بآخر.. يأتى تعاونه مع عاطف وخان وخيري.. وعندما دخل مجال الدراسة التليفزيونية كان يلعبها بطريقته.. لأن من يبدأ بالسينما وله تجاربه فى القصة القصيرة أو الشعر تكون مشاهده غالباً قصيرة ولغته مختصرة.. بعكس من يبدأ بالمسلسل فإنه يأخذ راحته لأنها دراما كانت تباع بالساعة.. والمؤلف يضطر أن يوسع دائرة الأحداث والشخصيات.. إلا إذا كان من أصحاب النفس الطويل مثل أسامة أنور عكاشة.. أو من الحريفة مثل وحيد حامد ومحفوظ عبدالرحمن ومحسن زايد وبشير الديك ومصطفى محرم.
التمكن
ولأنه لا يقبل بأنصاف الحلول ويقف أمام تفاصيل العمل الذى يكتبه.. ولو أن مسئوليته تقف عند حدود النص لكنه يتابع.. وقد سمحت له صحبته وصداقته مع الطيب وخان بصفة خاصة أن يقول رأيه.. مثلما حدث فى فيلم موعد على العشاء فى مشهد النهاية فقد طلب أن يغيره.. وبدلاً من أن كانت البطلة سعاد حسنى تتظاهر بأكل المسقعة المسممة التى أعدتها لزوجها السابق «حسين فهمي».. جعلها تأكل منها ويأخذ المشهد ألباب المتفرج أكثر وهو يعرف اللعبة وكان سهلاً عليه بعد ذلك أن يتحول إلى الإخراج.. فى فيلمين هما «الطوفان ـ سكة سفر».. وقد أعاد كتابة الطوفان فى شكل مسلسل تليفزيونى باعتباره صاحب الليلة وكثير من المسلسلات استلهمت قصصها من أفلام ناجحة سابقة.. كان من باب أولى أن يكون كاتب الفيلم هو نفسه من يتصدى لأعداء المسلسل وهو أمر جائز لأن المؤلف يمتلك الفكرة الرئيسية.. وقد فعلها وحيد حامد وأسامة أنور عكاشة فى مسلسلاته الأولى حيث تحول الشرابية مع تغييرات فى بعض الأحداث إلى «أرابسك» و«أبواب المدينة» إلى «ليالى الحلمية» وبذلك يكون بشير قد مارس الكتابة والإنتاج مع الصحبة إذا أضفنا إليهم المونتيرة نادية شكري.. كما مارس الإخراج.. وهو يرى ضرورة أن يقدم كل جيل ما يعبر به عن نفسه.. لأن جيل نكسة 36 نظر إلى الحياة بعين غير تلك التى نظر بها جيل 37 مع نصر أكتوبر ثم الانفتاح وما جرى من تغييرات سياسية واجتماعية عديدة والكاتب الشاطر الواعى عليه أن يلتقط مثل هذه الأمور.. بشرط أن تكون هناك مساندة من مخرج ومنتج.. يؤمنون بالشيء نفسه.. ولذلك لم يكن بشير يرفض الأجيال الجديدة.. بل يلتمس لها العذر لأن ظروفها غير وحياتها غير.. وبالتالى إنتاجها غير فى عصر السوشيال ميديا والمنصات والذكاء الاصطناعى وما خفى أعظم!