ربما لا يعلم الكثيرون أن «إبليس» اللعين يعد أول من روج للشائعات فى تاريخ البشرية.. فقد أقسم لسيدنا آدم كذباً أن الله تعالى قد منعه من أن يأكل من هذه الشجرة لأنها شجرة الخلد، وأوعز إبليس إلى سيدنا آدم وأمنا حواء أنهما لو أكلا منها فإنهما سيكونان من الخالدين.. وصدّق آدم وحواء شائعة إبليس، فأكلا من الشجرة.. فظهرت لهما سوءاتهما.. عندئذ أيقنا أن إبليس قد خدعهما، وأن ما قاله لهما لم يكن يستند إلى أى حقيقة.
وقد سجل القرآن الكريم هذا المشهد فى الآية 22 من سورة الأعراف، وختم الآية «إن الشيطان لكما عدو مبين».
فالشائعات ومنذ بداية الخليقة وحتى يومنا هذا مازالت سلاح المخادعين والكذابين والمنافقين.. يطلقونها بهدف تحقيق مآربهم فى إفساد الحياة على كوكب الأرض وتأليب الشعوب ضد قياداتها وتفتيت الجماعات والدول ونهب الثروات وتدمير القدرات.
ثبت تاريخياً استخدام الشائعات سلاحاً ضد أنبياء الله على الأرض، رسل الهداية والتنوير، وحتى ضد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
سيدنا نوح عليه السلام، أطلقوا عليه شائعة وسط قومه مؤداها أنه يريد أن يتفضل عليهم وأن يتزعمهم ويتآمر ضد مصالحهم.. بل أشاعوا عن سيدنا نوح عليه السلام أنه ضال وأنه مجنون وهو ما سجله القرآن الكريم فى الآيتين 60 من الأعراف «قال الملأ من قومه إنا لنراك فى ضلال مبين»، وفى الآية 90 من سورة القمر «وقالوا مجنون وازدجر».
سيدنا هود عليه وعلى نبينا السلام اتهمه قومه بالسفه وأطلقوا عليه الشائعات بأنه كذاب، سجلته الآية 66 من الأعراف قال تعالي: «قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك فى سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين».
وسيدنا موسى عليه السلام واجه أيضا سلاح الشائعات أطلقها فرعون بنفسه ومعه جنوده.
حارب فرعون سيدنا موسى وتعمد إشاعة القول بأنه «ساحر كذاب» لتسميم الالتفاف الشعبى حول سيدنا موسي، وسجل ذلك كتاب الله عز وجل فى الآيتين رقمى 109 و110 من سورة الأعراف «إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تآمرون».
وسيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام أطلقوا عليه وعلى والدته مريم البتول سلاح الشائعات «يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً» الآية 28 من سورة مريم.
سيدنا يوسف عليه السلام عندما تعرض لواحدة من أخطر الشائعات التى تمس الشرف والعرض، فنجاه ربه عز وجل وسجل ذلك القرآن الكريم فى قول الله تعالي: «كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين» الآية 24 من سورة يوسف.. وحتى فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما هاجر بعض الصحابة فارين بدينهم إلى الحبشة، أطلق المشركون شائعة بأن «أهل مكة قد أسلموا» وعندما وصلت الشائعة إلى من فروا بدينهم إلى الحبشة، صدقها البعض ممن لم يتحروا حقيقتها، فوقعوا فى الفخ الذى نصبه لهم المشركون، وعندما قرروا العودة «اصطادهم» المشركون وأوسعوهم تعذيباً وقتلاً، ومات منهم من مات.
والواقعة الشهيرة فى موقعة «أحد»، عندما أشاع الكفار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، عندئذ سارع البعض بإلقاء السلاح تأثراً، وبعضهم ترك القتال، وكانت النتيجة التى نعرفها جميعاً.
أما ثالثة الأثافى والمصيبة الأعظم والشر الأكبر، تلك الشائعة التى أطلقها عدو الله رأس النفاق عبدالله بن سلول فيما يسمى بـ «حادثة الإفك»، فكانت الشائعة زلزالاً هز المجتمع الإسلامى كله، حتى أنزل الله عز وجل قرآناً برأ فيه زوجة رسول الله.. إذ لم يكتف المشركون بما أطلقوه من شائعات وحرب نفسية شرسة تعرض لها رسول الله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وصفوه كذباً بأنه شاعر وكاهن وساحر، بل أطلقوا عليه شائعة أنه مجنون، وهدفهم أن يصدوا الناس عن رسول الله وأتباع دينه صلى الله عليه وسلم، فأشاعوا هذه الأوصاف وروجوا لهذه الشائعات ونشرها و«شيروها»، وقام بعض المنافقين بتوزيع الأموال وإطلاق الفتن والشائعات طعناً فى الدين ولتفريق وحدة المسلمين وشق صفوفهم وإضعاف قوتهم.
لم يكتفوا بذلك.. بل أطلقوا وأشاعوا «حادثة الإفك» وروجوا الكذب طعناً فى شرف وعرض السيدة عائشة رضى الله عنها أم المؤمنين، حتى نزل فى السيدة عائشة فصل البراءة من الله عز وجل ومن فوق سبع سماوات فى الآيتين 16 و19 من سورة النور، وختمها الله سبحانه بالقول: «والله يعلم وأنتم لا تعلمون».. كانت الشائعات السلاح الذى أدى لقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضى الله عنه، عندما حاصره الناس ومنعوا عنه الماء ونشبت المعارك بين المسلمين فى الجمل وصفين وظهر الخوارج وشاعت الفتن بين صفوف المسلمين، مازالت آثارها باقية إلى اليوم.
لم يسلم سيف الله المسلول خالد بن الوليد من سهام الشائعات، عندما أطلق المنافقون شائعة أنه رفض إخراج الزكاة، وعندما بلغ الأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحرى الأمر، قال صلى الله عليه وسلم: «إنكم تظلمون خالداً لأنه حبسها ووقفها فى سبيل الله قبل الحول عليها فلا زكاة فيها» رواه البخاري.. كذلك لم يسلم من اصطفوا مع رسول الله فى دعوته إلى الله عز وجل من التعذيب والتنكيل والقتل، وكانت الشائعات- كما هى اليوم- سلاح المرجفين فى الأرض، والمرجفون فى المدينة هم هؤلاء الذين يروجون لما يسمعون بغير تحر ولا علم.
.. وبعد..
الشائعات سلاح أصم أبكم وأعمي، يطلق سهامه وشظاياه حيث مصالح قوى الشر وأساطير التآمر وأرباب الفتن، يكوون بها شعوباً وأقواماً، عاشوا ردجاً من الزمن أصدقاء وجيران حتى جاءتهم الشائعات، فمضت تسير نحو مصالحهم تغتالها، وثرواتهم كى تسرقها ومقدراتهم لكى تنهبها، تضيع حاضرها وتقتل مستقبلها.
«واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا» ولكم فى سير الأولين العظة والعبرة.
بقى أن نذكر بأن السبيل الأنجع لمواجهة الشائعات أن نواجهها فور إطلاقها، نحاصرها بالكلمة الصادقة والمواجهة الشجاعة للوقائع، والفهم العميق لدوافع من أطلقها.. عندئذ مهما بذل أعداء الأمة من جهد جبار لإنتاج ملايين الشائعات وملياراتها، فلن يفلحوا أبداً فى تفتيت وحدة الأمة أو المساس باصطفافها.