اخترت من كتاب طوق الحمامة لابن حزم الأندلسى: العالم الفقيه، باب فضل التعفف يقول فيه ومن أفضل ما يأتيه الإنسان فى حُبِّه التعفُّفُ وتركُ ركوب المعصية والفاحشة، وألاَ يرغب عن مُجازاة خالقه له بالنعيم فى دار المقامة، وألَّا يعصيَ مولاه المتفضل عليه الذى جعله مكانًا وأهلًا لأمره ونهيه، وأرسل إليه رسله، وجعل كلامه ثابتًا لديه، عنايةً منه بنا وإحسانًا إلينا. وإن من هام قلبُه وشُغل باله واشتد شوقه وعظُم وَجْده، ثم ظفر فرام هواه أن يغلب عقله وشهوته، وأن يقهر دينه.
ثم أقام العدل لنفسه حصنًا، وعلم أنها النفس الأمارة بالسوء، وذكَّرها بعقاب الله تعالى، وفكَّر فى اجترائه على خالقه وهو يراه، وحذَّرها من يوم المعاد والوقوف بين يدى الملك العزيز الشديد العقاب الرحمن الرحيم الذى لا يحتاج إلى بينة، ونظر بعين ضميره إلى انفراده عن كل مُدافع بحضرة علَّام الغيوب «يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»، «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ»، «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا»، «يوم وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا»، «يوم وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا»، يوم «فاذا جاءت الطامة الكبري، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَي»، واليوم الذى قال الله تعالى فيه: «وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا». عندها يقول العاصي: يا ويلَتي! مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا فكيف بمن طُوى قلبه على أحرَّ مِن جَمر الغضي، وطُوى كشْحُه على أحدَّ مِن السيف، وتجرَّع غصصًا أمَرَّ من الحنظل، وصرف نفسه كرهًا عما طمعت فيه، وتيقَّنت ببلوغه وتهيَّأت له ولم يَحُلْ دونها حائل، لحريٌّ أن يُسرَّ غدًا يوم البعث، ويكون من المقربين فى دار الجزاء وعالم الخلود، وأنْ يأمنَ رَوعات القيامة وهَول المَطلع، وأن يُعوِّضه الله من هذه القَرحة الأمنَ يوم الحشر.
حدَّثنى أبو موسى هارون بن موسى الطبيب قال: رأيت شابًّا حَسن الوجه من أهل قُرطبة قد تعبَّد ورَفض الدنيا، وكان له أخ فى الله قد سقطت بينهما مَئونة التحفُّظ، فزاره ذات ليلة وعزم على المبيت عنده، فعرضت لصاحب المنزل حاجة إلى بعض معارفه بالبُعد عن منزله، فنهض لها على أن ينصرف مُسرعًا، ونزل الشاب فى داره مع امرأته، وكانت غايةً فى الحسن وتِربًا للضيف فى الصِّبا، فأطال رب المنزل المقام إلى أن مشى العَسس ولم يُمكنه الانصراف إلى منزله، فلما علمت المرأة بَفوات الوقت، وأن زوجها لا يمكنه المجيء تلك الليلة، تاقت نفسها إلى ذلك الفتي، فبرزت إليه ودَعتْهُ إلى نفسها، ولا ثالث لهما إلا الله عز وجل، فهمَّ بها ثم ثاب إليه عقلُه وفكَّر فى الله عز وجل، فوضع إصبعه على السراج فتفقَّع، ثم قال: يا نفس، ذوقى هذا، وأين هذا من نار جهنم؟ فهال المرأة ما رأت، ثم عاودَتْه فعاودَتْه الشهوة المركَّبة فى الإنسان، فعاد إلى الفعلة الأولي، فانبلج الصباح وسبَّابته قد اصطلمتها النار.
أفتظن بلغ هذا من نفسه هذا المبلغ إلا لفَرط شهوةٍ قد كلبت عليه؟ أو ترى أن الله تعالى يُضيِّع له المقام؟ كلا، إنه لأكرم من ذلك وأعلم.
>>>
اللهم انصر فلسطين وأهل فلسطين