لا يوجد تفسير لعجز مجلس الأمن حتى الآن عن التحرك للخطوة التالية، وهى إلزام الأطراف المعنية بتنفيذ قراره الذى اتخذه بناء على مبادرة الرئيس الأمريكى بايدن، بوقف الحرب فى غزة، وإطلاق سراح رهائن إسرائيل لدى حماس، وأسرى فلسطين لدى إسرائيل، وإطلاق عملية إعادة الإعمار فى القطاع.
مضى ما يقرب من شهرين على صدور القرار دون تنفيذ أى بند من بنوده.
إسرائيل تواصل حرب الإبادة الجماعية للشعب الفلسطينى فى غزة واستخدام كل الأسلحة ضد المدنيين الأبرياء بما فيها بعض الأسلحة المحرمة دولياً، وارتكاب كل أنواع جرائم الحرب فى تجويع وتهجير قسري.
بل تحت مظلة هذا القرار نقلت إسرائيل الحرب إلى الضفة الغربية التى كانت المواجهات فيها قاصرة على الاستفزازات اليومية من المستوطنين الإسرائيليين بانتهاك حرمة المسجد الأقصي، فأصبحت ميداناًًً لعملية عسكرية إسرائيلية شاملة.
واستغل رئيس الوزراء الإسرائيلى الفرصة وخرج بخريطة مزورة لا وجود للضف الغربية بها.. أى أنه شطبها من الجغرافيا حتى لا يكون لها أصل فى التاريخ.
أعداد الشهداء والمصابين فى غزة والضفة تتزايد كل يوم بالمئات، ومعها تدوس إسرائيل على كل تراث البشرية من قوانين دولية ومواثيق انسانية وتنتهك كل المقدسات، وتمحو كل خطوط حمراء.
ومازلنا ومازال العالم واقفين عند مرحلة «توصيف» الأحداث، وتوثيق الجرائم، والتعبير الإنشائى عن الإدانة والرفض أو الشعور بالقلق، والحديث عن أنه «حان الآن وقف إطلاق النار»، وأن حل الدولتين هو السبيل الوحيد للاستقرار فى الشرق الأوسط والعالم.
إن المفترض أن قرار مجلس الأمن «قرار دولي».. فقد صدر بإجماع آراء الدول الأعضاء عدا روسيا التى تحفظت عليه لعدم وجود أى ضمانات لتنفيذه، وأثبتت الأيام والأحداث أن تحفظها كان فى محله تماماً.
وليس معنى أن القرار فى الأصل مشروع أمريكى حمل اسم «مبادرة بايدن»، أن لأمريكا حق الانفراد به أو الوصاية عليه، لأن أمريكا طرف أصيل فى الحرب إلى جانب إسرائيل، تتفق معها تماماً فى كل أهدافها من الحرب، وتمدها «علناً» بكل ما تطلبه من دعم مالى وعسكرى وسياسى واستخباراتى ولوجستى لتحقيق هذه الأهداف.
قرار مجلس الأمن ـ كما ذكرت ـ قرار دولي، وتنفيذه «مسئولية جماعية» تقع على كاهل جميع أعضاء المجلس، وتتضمن هذه المسئولية، عند عدم التنفيذ، أو عند تفريغ القرار من مضمونه، أو عند التباطؤ فى التنفيذ، تحديد الطرف أو الأطراف المتسببة فى ذلك، ومن ثم التدخل بإجراء جديد من جانب المجلس فى حق من يتسبب فى ذلك.
وحين لا يتخذ المجلس هذه الخطوة، فى الوقت الذى يتصل علمه كأعلى سلطة جماعية على قمة الأمم المتحدة، أو علم أعضائه كدول بما جرى ويجرى بعد صدوره من جرائم وانتهاكات وقتلى ومصابين، فإن ذلك يجعل من الصعب تبرئته من المسئولية إذا لم يتدخل بما يلزم من إجراءات.
إن ما يجرى أوضح من أن يتم تجاهله.
لقد سبق أن وافق الطرفان: إسرائيل وحماس على بنود اتفاق يلبى مطالب الطرفين، بعد جهود مكثفة من مصر وقطر ودعم إقليمى ودولي، وكان يمكن لوقف إطلاق النار أن يتم وفقاً للمراحل التى تضمنتها بنود هذا الاتفاق.
لكن رئيس الوزراء الإسرائيلى نقض الاتفاق قبل أن يبدأ تنفيذه، وقدم شروطاً جديدة إضافية إليه، رفضتها حماس، والتزمت بما تم الاتفاق عليه.
وبدلاً من أن يتدخل الراعى الأمريكى لوقف هذا التلاعب الإسرائيلى والمضى قدماً لما تم إنجازه، فإن أمريكا تماهت مع الموقف الأمريكي، وبدأت بدورها تتحدث عن تشدد حماس، وتفكر فى تقديم مقترحات جديدة من جانبها لإيجاد «حل وسط» لهذا الموقف.
وتكرر هذا الموقف أكثر من مرة من جانب إسرائيل حتى فى مفاوضات القاهرة الأخيرة.. بل وصل إلى إعلان نتنياهو تمسكه بوجود إسرائيل العسكرى فى ممر صلاح الدين «فيلادلفيا» والجانب الفلسطينى من معبر رفح، وإعلانه أن هذا هدف إسرائيلى يعلو على هدف تحرير رهائن إسرائيل لدى حماس!!
ورغم علم أمريكا التام بعدم مشروعية هذا الوجود، وبأنه يعد انتهاكاً للاتفاقيات الموقعة بين مصر وإسرائيل وكان شاهداً عليها، وبأنه يشكل مساساً خطيراً بالأمن القومى المصري، وأن مصر التى ترتبط بشراكة استراتيجية مع أمريكا وتمثل عنصر استقرار للمنطقة بأكملها، ترفض هذا الوجود العسكرى لإسرائيل فى هذا الموقع وتطالب بالانسحاب الكامل منه.
رغم ذلك كله، فإن أمريكا ضربت بذلك عرض الحائط، وتدخلت فى الموقف بمقترح ينحاز لإسرائيل، وهو أن تقوم إسرائيل بـ «انسحاب جزئي» من الممر ومن الجانب الفلسطينى من المعبر، وليس انسحاباً كاملاً، وهو ما رفضته مصر، لأنه يعطى لإسرائيل ما ليس حقاً لها، وما يهدد أمن أكبر دول جوارها، وما يشكل ـ لو تم تمريره ـ سبباً مباشراً فى خلخلة سلام واستقرار المنطقة والعلاقات المصرية الأمريكية.
وإذا استمر هذا المسلسل من تمرد نتنياهو على أى اتفاق لا يرضى جموحه الشخصى ولا يضع فى يده مكافأة يعلن بها انتصاره فى السابع من أكتوبر القادم.
وإذا استمرت أمريكا فى الانحياز عملياً له، والاكتفاء إعلامياً بالإعلان عن وجود خلافات وهمية بين بايدن وبينه.
وإذا استمر صمت المجتمع الدولي، وأن تظل يد مجلس الأمن مغلولة عن التدخل واتخاذ الخطوة التالية لكسر هذا الجمود.
إذا استمر كل ذلك، فلن تكون هناك حدود للجنون الإسرائيلى الذى يقوده نتنياهو واليمين المتشدد فى حكومته.
لقد أعلن نتنياهو ووزير دفاعه أول أمس أن مهمة الجيش الإسرائيلى فى الجنوب ـ يقصد فى غزة ـ قد انتهت، وعلينا الانتقال إلى جبهة الشمال.. أى لبنان وحزب الله.. ويمكن بعد ذلك أن يفتح جبهة مع سوريا أو غيرها.
وسوف يهرول العالم إلى لبنان، ويكثف جهوده لوقف التصعيد، وسوف نكتفى نحن فى العالم العربى والعالم الإسلامى بالحديث عن المجازر والمساعدات هنا أو هناك، دون أن يصدر من أى دولة، أو أى منظمة إقليمية أو قارية أو عالمية «فعل» أو قرار واحد يرجع إسرائيل، ويضع نتنياهو فى حجمه الحقيقي.
إرادة «الفعل» السياسية الغائبة على كل المستويات هى التى تصنع من نتنياهو ـ برعاية أمريكا ـ شمشون الجبار.
لكن هذا لن يستمر طويلاً، ويجب ألا يستمر.