> أسفرت الانتخابات الأوروبية الأخيرة، عن صعود كبير لليمين الشعبوى المتشدد داخل المؤسّسة الأوروبية التى ترسم إستراتيجيات الاتحاد وعلاقاته الخارجية ومستقبله السياسى والاقتصادي، ويُشير مصطلح «اليمين الشعبوي» إلى مجموعة من الأحزاب والحركات السياسية التى تتبنى مواقف قومية متشددة، وتُعادى العولمة والتعددية الثقافية، وتُؤكّد أهمية الهوية الوطنية والسيادة الشعبية. ويكمن الاختلاف الوحيد بين اليمين التقليدى أو المعتدل واليمين الشعبوى المتطرف أن الأخير يدعو إلى التدخل القسرى واستخدام العنف واستعمال السلاح لفرض التقاليد والقيم.
> أظهرت نتائج انتخابات البرلمان الأوروبى 2024 أرقام ذات دلالات كبيرة فعلى سبيل المثال، جاء اليمين الشعبويّ فى فرنسا ممثلاً فى «الجبهة الوطنية» فى المرتبة الأولى بنسبة 32 ٪، متقدماً على حزب الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون؛ الذى أعلن على إثر ذلك حلّ البرلمان «الجمعية الوطنية»، والدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة 30 يونيو الجاري.. و فى ألمانيا حصل حزب «البديل من أجل ألمانيا» على المرتبة الثانية متقدماًً على الحزب الاشتراكى الديمقراطى الذى يرأسه المستشار أولاف شولتس، ومسبوقاً بحزب الاتحاد الديمقراطى المسيحى وشقيقه البافارى (CSU) بنسبة 16 ٪، وفى هولندا نجح حزب الحرية الذى يتزعمه خيرت فيلدرز فى الانتخابات العامة الهولندية فى نوفمبر 2023.
> بالطبع هناك أسباب لصعود اليمين الشعبوى فى أوروبا بهذه الطريقة، فلم يكن الأمر مفاجئاً، وإنما كانت هناك محموعة من العوامل أدت إلى هذه النتائج أبرزها وفى مقدمتها الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008 حيث أدت إلى تفاقم مشاعر عدم الرضا والغضب الشعبى فى العديد من الدول الأوروبية، إلى جانب القلق والخوف لدى بعض قطاعات المجتمع الأوروبى من تزايد موجات الهجرة إلى أوروبا، ممّا أعطى اليمين الشعبوى فرصة سانحة للترويج لخطاب معاد للمهاجرين.
> الآن تهيمن أحزاب اليمين الشعبوى بشكل متزايد على المشهد السياسى فى عموم أوروبا، وهذا من دون شك سيؤدى حتما إلى إعادة رسم الخرائط السياسية داخل القارة العجوز، بداية من البرلمان الأوروبي، وهذا بالطبع سيشكل خللاً فى التوازنات القائمة سياسياً واقتصادياً عبر المديين المتوسط والبعيد، ما قد يحمل بدوره تهديدات ومخاطر بالغة الأثر على مستقبل الاتحاد الأوروبى كتكتل إقليمى فاعل إقليمياً ودوليا، سواء على المستوى الاقتصادى أوالسياسي، ومع الخرائط الجديدة ليس من المستبعد أن نجد أوروبا فى حالة ضعف إستراتيجى فى ظل التحديات الكبيرة لا سيما القادمة من الأقطاب الصاعدة مثل الصين التى تطوق العالم اقتصادياً وتقوده بمنتهى النعومة والسلاسة إلى نزاع جيوستراتيجى حتمي، أو الأقطاب التى كانت موجودة قبل الهيمنة الأمريكية الكاملة وتراجعت وتسعى الآن لاستعادة نفوذها القديم مثل روسيا التى تخوض حرباً بأبعاد جيوسياسية فى أوكرانيا، كل هذا سوف يهز الوجود الأوروبى مع تصاعد اليمين الشعبوى المتشدد.
> ليس خافياً أن صعود اليمن المتشدد فى أوروبا يهدد أيضاً التقاليد الأوروبية القديمة والراسخة على مختلف المستويات السياسية والثقافية والحقوقية ما قد يتسبب فى ضرر بالغ على النّسيج الاجتماعى وسمة التعددية والتنوع فى أوروبا والتى ظلّت السرديات الخطابية؛ تعتبرها حالة مثالية للديمقراطية الليبرالية، كما أنه قد يضيق مساحة الدور الذى يقوم به المواطنون الأوروبيون من أصول مهاجرة؛ مسلمين وغير مسلمين، فى الاقتصاد والديناميات الثقافية والاجتماعية التى عرفتها أوروبا منذ عقود.
> كل الشعبويات ذات النزعة الأصولية لديها خطاب يحمل نزعة تحريضية محملة بالكراهية والتطرف، وهذا يوفر بيئة خصة للتوتر والقلق بأشكال متنوعة.